فواعل سورية.. رقعة واحدة وأزمات مختلفة 2-3
“النظام.. وأزمة انهيار الاقتصاد”
لا شك بأن عشر سنين من الحرب الداخلية قادرة على تدمير اقتصاد أعتى الدول، فكيف بدولة ضعيفة البنية الاقتصادية وتعتبر من الدول الفقيرة كسورية، وما زاد الطين بلة بأن النظام وضع جل اهتمامه ما بعد اندلاع الثورة في هدف البقاء وحسم الصراع عسكريا، وهو ما عجز عنه في السنين الأولى بشكل منفرد ليأتي التدخل الروسي، ويحيي الأمل لدى النظام ومؤيديه بالقدرة على حسم الصراع عسكريا، لتصبح المعادلة التي تبناها النظام: لنحسم عسكريا ثم سيضطر الجميع للجلوس معنا على الطاولة، وحينها يمكننا الاستفادة من أموال إعادة الإعمار في إعادة دورة الحياة لاقتصاد دخل مرحلة الإنعاش، وعليه لم يبالي النظام في تحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب يتحكم به أمراء الحرب الجدد في سورية، وكل هم النظام كان مقتصرا على أن يضمن هذا الاقتصاد الحدود الدنيا للمعيشة للمواطنين في أماكن سيطرته مع فرص الغنى للمحسوبين عليه. هذا الواقع الذي أفرز خللا بنيويا في الاقتصاد تمثل في طبقات اقتصادية جديدة راكمت أموالا طائلة سمحت لها بشراء سيارات بأسعار خيالية مقارنة بغالبية مسحوقة من الأفراد، ولكن بقي النظام دائما يصدر ازمته الداخلية إلى خارج حدود سيطرته على قاعدة أن المعركة الأخيرة قادمة وبعدها سيكون الفرج، ولكن مسار 2020 لم يأت كما يشتهي النظام، فالعملية العسكرية التي شنها على إدلب بمساندة روسيا وإيران كانت آخر الأوراق العسكرية التي يمكن أن يستثمرها، وقد راهن النظام عليها رهانه الأخير، فقد تجاوز النظام وبدعم من روسيا كل الاتفاقيات التي تم توقيعها في أستانة وسوتشي، وبذلك حطم المسار السياسي الروسي التركي، وقد عول النظام على تراجع تركي بعد حسم الصراع عسكريا، ولكن ما حدث أتى مخالفا لتوقعاته فلم يتراجع التركي هذه المرة، بل بالعكس، تدخل عسكريا وبشكل حاسم ضد النظام وتسبب للنظام بخسائر عسكرية مدمرة، ويمكن القول بأن خيار استخدام القوة العسكرية أصبح بعيد المنال وربما قد يتسبب للنظام بتهلكة لا يتحملها، فحجم القوات التركية الموجودة في الشمال السوري ليس قادرا فقط على منع النظام من تحقيق أي مكسب عسكري، بل قادرة أيضا على الوصول إلى مدينة حلب وحتى حماة في حال فكر النظام بمهاجمة المناطق المحررة. وعليه، عادت الأزمة التي حاول النظام دائما تصديرها لخارج مناطق سيطرته إلى داخلها، ولكن بأعباء مضاعفة، فلم يعد فقط الحسم العسكري غير متاح، بل هو أصبح ملاحقا من القوى الدولية المتواجدة على الأرض السورية فتركيا – أمريكا تريان بالنظام عنصرا لا بد من تغييره، وهذه حقيقية قائمة يمكن ملاحظتها من خلال التصريحات المتواترة التي تصدر عن المسؤولين في هاتين الدولتين.
من جهة أخرى، لم يصبح الحسم العسكري بعيد المنال عن النظام فقط، بل أصبح بعيدا عن القوى المعارضة للنظام أيضا، وذلك نتيجة التواجد العسكري المباشر، وهو ما أدركته الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك سعت إلى انتهاج استراتيجية جديدة قائمة على قاعدة جعل ما حققته روسيا والنظام من انتصارات عسكرية بلا معنى من خلال إخضاع النظام لسلسة عقوبات أنهكته اقتصاديا من خلال قانون قيصر، وهو ما جعل التركة السورية التي سيطرت عليها روسيا تركة ثقيلة وغير مفيدة لروسيا، وهي الدولة التي تعاني أصلا من أزمات اقتصادية، كما عملت أمريكا على ربط عملية إعادة الإعمار وما قد تحمله من فوائد اقتصادية بملف المسار السياسي والوصول إلى حل سياسي وفق القرار 2254، وهو ما يعني بالنهاية تغييرا طالما عمل النظام على ممانعته.
إذن، فالمسار الذي اختطته أمريكا جعل النظام يغرق في أتون أزمة اقتصادية لا يجد حلا لها، وقد ظهرت ملامح هذه الانهيار من خلال مؤشرات يمكن رصد أبرزها كما أوردها مركز جسور للدراسات بما يلي:
1-انخفاض سعر الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية: انعكست معطيات عام 2020 على سعر الصرف بشكل واضح، فقد ختمت الليرة السورية عام 2019 عند أقل من 1000 ليرة لكل دولار ثم هبطت في 2020 لتصل إلى أكثر من 2900 ليرة سورية لكل دولار
2-استمرار أزمة المحروقات والمواد الرئيسية: تعاني سورية بشكل دوري من أزمات في مجال المحروقات والخبز بشكل رئيسي حتى قبل 2011، ويعود ذلك لسوء تقدير الطلب وعمليات التوزيع العشوائية التي تتبعها مؤسسات الحكومة، إلا أن أزمة 2020 بدت أكثر وضوحاً. ومن المتوقع أن السبب الرئيسي لأزمة هذا العام يعود لضعف الموارد التي نتجت عن الظروف التي تمر بها سورية، وهي مسألة كنا قد أشرنا لاحتمال تطورها بشكل كبير نتيجة خروج مناطق الإنتاج الرئيسية عن سيطرة النظام السوري ومشكلة استيراد مثل هذه المواد.
3-رفع الدعم عن بعض السلع الرئيسية: رفع النظام في 2020 الدعم جزئياً عن الخبز والمازوت المخصص للتدفئة إضافة للبنزين وعدد من المواد الدوائية، وهي خطوة اتضح أن خلفها محاولة جمع مزيد من الموارد عن طريق فروق الأسعار، حيث لم تترافق هذه الخطوة مع زيادة في الرواتب كما جرت العادة في أوقات سابقة. ويتوقع أن ارتفاع السعر الحالي لن يتوقف، وقد يعقبه مزيد من الارتفاع في 2021.
4-ارتفاع عجز الموازنة: حيث يلاحظ أن نسبة العجز في موازنة 2020 وصل إلى أكثر من الثلث، ولكن الواقع الفعلي يقول أن جزءاً كبيراً من المشاريع المخطط لها لم تنفذ، مما يعني أن العجز الحقيقي كان أكبر من هذه النسبة.
ومقارنة مع الموازنات السورية منذ الاستقلال، كانت موازنة 2021، والتي تمت مناقشتها في أواخر أيلول-سبتمبر 2020، وأقرت بمبلغ إجمالي 8.5 ترليون ليرة، هي الأكبر من حيث قيمتها بالليرة والأقل مقومة بعملة أجنبية.
ويبلغ العجز المخطط في هذه الميزانية قرابة 30%، ويتوقع أن يفوق العجز الفعلي 40% من إجمالي الموازنة.
5-تراجع الوضع المعيشي: انعكست الظروف الاقتصادية الصعبة على الواقع المعيشي للسكان في سورية، حيث باتت الرواتب البالغة بالمتوسط 60 ألف ليرة سورية (بما يتجاوز بالكاد 25 دولاراً)، في الوقت الذي قدرت فيه احتياجات الأسرة بعشرة أضعاف هذا الرقم على أقل تقدير وفقاً للأسعار السائدة في 2020، بما يعني أن هذا الدخل يكفي الأسرة لثلاثة أيام، أو أسبوع إن كان هناك معيلان داخل الأسرة الواحدة.
كما انعكست الظروف في رفع مستوى الفقر، حيث وصل معدل الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1.9 دولار يومياً إلى حوالي 90% من السكان.
وأدّت هذه المعطيات إلى جعل الحياة في الأرياف أكثر راحة مقارنة مع المدن، لجهة انخفاض التكاليف والقدرة على تأمين بعض المصادر، مما يعني أن مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام تبقى أقل كلفة من غيرها، وكذلك الحال في معظم المناطق الريفية.
6- العلاقات الاجتماعية السورية: بدا المجتمع السوري في 2020 في أقسى درجات الإنهاك الاجتماعي، فالحرب الطويلة فتت بنيته الأصغر على مستوى أبناء الأسرة الواحدة، والتي تباعدت جغرافياً بشكل كبير وربما للمرة الأولى بهذا الحجم في التاريخ السوري الحديث.
وساعد الارتباط بين المجتمع السوري في الداخل ومجتمع الشتات في تدفق حركة المساعدات النقدية والعينية لأغراض إنسانية بحتة، رغم تأثير فايروس كورونا على هذا التدفق. وأخذت هذه المساعدات أشكالاً أسرية أكثر من كونها أشكالاً منظّمة من قبل مؤسسات المجتمع المدني على غرار ما كان يحصل في السنوات الأولى للحراك، لأسباب تعود إلى الرقابة الأمنية الشديدة التي يفرضها النظام السوري على كل ما هو منظم، وعلى المساعدات التي تصل إلى الأفراد لاعتبارات غير عائلية.
إن المدقق في هذه العناصر يدرك بأن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام هي أزمة بنيوية لا يمكن إصلاحها بقرارات شكلية، بل تحتاج إلى تغيير حقيقي يعالج الأسباب الحقيقية لهذا الواقع الاقتصادي، والتي يمكن إجمالها بما يلي:
1- إنهاء حالة الصراع الدائرة في سورية والانتقال نحو مسار بناء السلام.
2- إنهاء العقوبات المفروضة على مناطق سيطرة النظام.
3- الانتقال نحو تفعيل ملف إعادة الإعمار الذي يمكن أن يشكل رافعة للاقتصاد السوري.
والوصول إلى معالجة هذا الأسباب يتطلب فعليا الوصول إلى حل سياسي مدعوم دوليا، وهذا الأمر لا يوجد توافق دولي عليه إلا من خلال القرار 2254 والذي سيفضي في النهاية إلى حل سياسي يدفع فيه بشار الأسد الفاتورة الأكبر، وما قبل الوصول لهذا الحل سيبقى النظام يعيش أزمة اقتصادية خانقة لن يجد لها حلا، وهي أقرب إلى كرة ثلج في كل يوم تزداد حجما.
لقراءة الجزء الأول من المقالة “قسد … وأزمة حصان طروادة” https://nmaresearch.com/?p=2202
تعليق واحد