مقالات

فواعل سورية .. رقعة واحدة وأزمات مختلفة 1-3 “قسد … وأزمة حصان طروادة”

باتت سورية اليوم ونتيجة تفاعل مجموعة عوامل سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية داخلية وخارجية مقسمة إلى ثلاثة مناطق نفوذ أساسية، وهي: منطقة سيطرة النظام بحماية روسية وإيرانية، ومنطقة شرق الفرات تحت سيطرة مليشيات قسد وبحماية الولايات المتحدة الامريكية، ومناطق سيطرة المعارضة والمحمية من قبل تركيا. ورغم أن هذه المناطق الثلاث تشترك الرقعة الجغرافية السورية وقد تتماثل في الظروف العامة بين هذه المناطق لجهة تبعات وويلات الصراع الممتد لعشر سنوات مما يولد سلسلة من الازمات المتشابهة بين هذه المناطق إلا أن لكل منطقة أزمة حاسمة ذات صبغة مختلفة؛ فالنظام يعاني أزمة اقتصادية حاسمة، والمعارضة تعاني أزمة جغرافية حاسمة، ومليشيات قسد تعاني أزمة سياسية حاسمة، وهو ما تسعى سلسة المقالات هذه والمكونة من ثلاثة أجزاء إلى مقاربته حيث ستركز كل مقالة على طبيعية الأزمة التي تعانيها كل منطقة على حدة.

قسد … وأزمة حصان طروادة

ظهرت مليشيات قسد “قوات سورية الديموقراطية” باعتبارها تحالفا عسكريا هدفه الأساسي قتال تنظيم داعش وإلحاق الهزيمة به مدعومة من قبل قوى غربية وبشكل أساسي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن خافيا منذ اليوم الأول لتأسيس مليشيات قسد بأن المكون الكردي هو المكون المتحكم الرئيسي في هذا التحالف، ورغم أن بعض المصادر تورد بأن نسبة العرب تزيد على نسبة الأكراد داخل قسد على مستوى العناصر، ولكن هذا الأمر لا يلغي حقيقية أن المتحكم الفعلي في هذا الهيكل بالكامل هم من المكون الكردي وهو الأمر الذي أثار حفيظة دول إقليمية مثل تركيا وحتى ايران، وخاصة أن العضد الرئيسي لبناء هذه التحالف كان وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة وهي تشكيلات عسكرية تابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردستانيPYD الذي هو فرع سوري من حزب العمال الكردستاني المتشدّد PKK، وقد استطاعت مليشيات قسد وبدعم غربي من هزيمة تنظيم داعش شرق الفرات والسيطرة على مساحة جغرافية تساوي حوالي ثلث مساحة سورية متضمنة غالبية موارد سورية النفطية والغازية بالإضافة إلى أن هذه المنطقة تضم السلة الغذائية السورية. ومع عدد سكان ليس بالكبير وموارد اقتصادية مقبولة ودعم غربي استطاعت قسد أن تدير مناطق شرق الفرات بشكل مقبول نسبيا، ولكن هذا لا يلغي أن مناطق سيطرتها بقيت تعاني من أزمات أخرى مثل تردي الوضع الأمني حيث أظهر تقرير أصدره مركز عمران للدراسات الاستراتيجية في الفترة الحالية أن مناطق سيطرة قسد تعاني من أزمة أمنية بسبب الفوضى الأمنية التي تعيشها هذه المنطقة، وتعدد الفواعل الموجودة على الأرض، وبما يتعلق بالنموذج الإداري فقد حاولت مليشيات قسد تجسيد نموذجها في  الحكم المحلي من خلال ما يسمى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، وهو نموذج إداري ساعد مليشيا قسد على إدارة المنطقة ولكن هذا النموذج رسخ أزمة السيطرة الكردية على غالبية عربية، خاصة أن السبيل الذي اختطته مليشيات قسد لفرض سيطرتها على المنطقة سواء كان من التجنيد الإجباري أو من ملاحقة وإقصاء كل التيارات السياسية المعارضة لها – حتى ولو كانت كردية – من الساحة السياسية قد سبب مشكلة في التعامل ما بين قسد وما بين المجتمعات المحلية شرق الفرات، وعليه يمكن القول: إن قسد استطاعت الاستفادة من اللحظة السياسية متمثلة بالتوجه الأمريكي لهزيمة داعش واعتماد أمريكا على قسد لتحقيق ذلك في ترسيخ وجودها ضمن كانتون سياسي شرق الفرات، ورغم أن قسد عانت من مشاكل اقتصادية إدارية عسكرية امنية إلا أن أيٍّ من هذه المشاكل لم تصل إلى مرحلة الأزمة الحاسمة بالنسبة لها حيث استطاعت تطويع نفسها مع التطورات، ولكن هذا التطويع بنظرة أكثر دقة يظهر بشكل جلي أزمة سياسية بنيوية، فقسد في النهاية لاعب سياسي له مشروعه السياسي، وإذا ما حاولنا توصيف هذا المشروع السياسي بشكل مختصر فهو يكون ما بين الانفصال والقبول بحل سياسي فيدرالي يحافظ على سيطرة قسد على شرق الفرات، وفي كلتا الحالتين لا تستطيع قسد منفردة تحقيق ذلك، ففي حالة الانفصال هي تحتاج إلى أن تقوم أمريكا بدعم هذا الخيار مع تواجد دائم من قبل  الولايات المتحدة الامريكية في هذا الكانتون الجديد، وهو ما لم تُظهر أمريكا – حتى الآن – نية في دعم مثل هكذا خيار، أما بما يتعلق بالوصول إلى تسوية سياسية تفضي إلى الوصول إلى نظام فيدرالي فقسد لا تحتاج لدعم دولي فقط، بل أيضا إلى توافق داخلي مع أطراف المعادلة السورية سواء كان النظام من طرف أو قوى المعارضة من طرف آخر، وربما كليهما معا، وهو ما لم تتوفر احتماليته حاليا، وهي الحالة التي عبر عنها مسعود البرزاني في إحدى مقابلاته السابقة حين قال بما معناه إن قسد لم تستطع بناء تفاهم لا مع النظام ولا مع المعارضين للنظام، وهم اليوم وكأنهم واقفون في الهواء. وعليه، فبعد أن استفادت قسد من اللحظة السياسية لقتال داعش والظهور بمظهر حصان طروادة في هزيمة التنظيم، باتت أمام أزمة سياسية بنيوية، وقد باتت قسد تدرك ذلك تماما، ولعل تخلي الروس عن قسد في عفرين ثم تخلي أمريكا عن قسد في معركة نبع السلام أظهر  لقسد، وبكل وضوح، عمق هذه الأزمة، ومما يزيد الطين بلة بالنسبة لقسد هو زيادة وضوح عدم اهتمام أمريكا بسورية بعد هزيمة داعش؛ لذلك فأمريكا لن تستثمر جهودا وموارد في المشروع السياسي الذي تتبناه قسد، وعليه بات مشروع قسد السياسي هو العبء الذي يثقل كاهلها، وفي هذا السياق  يمكن فهم تحذير المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا “جيمس جيفري” لقسد من أربع أخطاء قد تؤدي إلى فقدان  سيطرتها على مناطق شمال وشرق سوريا، ورأى جيفري أن اتخاذ “قسد” أي من تلك الإجراءات الأربعة “يمكن أن يؤدي إلى ضربات مضادة على (قسد)”.

وقال جيفري في مقال بمركز “ويلسون” للأبحاث بواشنطن، الذي يشغل فيه حالياً رئيس برنامج الشرق الأوسط: إن على “قسد” تجنب اتخاذ أي من الخطوات الأربع، وهي: قطع جميع شحنات النفط إلى دمشق، إعلان الحكم الذاتي أو الاستقلال عن سوريا، على غرار الاستفتاء “الكارثي” الذي أجرته حكومة إقليم كردستان العراق في عام 2017، وتعزيز العلاقات مع حزب “العمال الكردستاني الذي يعتبر جماعة “إرهابية” في تركيا، أو مهاجمة تركيا من شمال شرق سوريا.

وتدرك أمريكا فعليا عمق الأزمة السياسية التي تعاني منها قسد لذلك دفعت ودعمت خطوة الحوار الكردي – الكردي عله يكون وسيلة تساعد قسد على تجاوز أزمتها خاصة إذا ما كان مخرج الحوار النهائي إقصاء الجهات المحسوبة على حزب العمال الكردستاني وزيادة دور المجلس الوطني الكردي القادر على بناء تفاهم مع تركيا، وبما يساعد على تغيير واقع المعادلة السياسية الحالية. ولكن، يبدو أن آفاق هذا الحوار لم تصل إلى مبتغاها لتعود تطورات الأمور حول قضية عين عيسى لتلق بظلالها على واقع الأزمة السياسية لقسد، حيث تعتبر تركيا أن من أهدافها تحييد سيطرة قسد على الأراضي السورية حتى ولو استخدمت القوة العسكرية لذلك، وقسد لا تستطيع مجابهة تركيا منفردة وحليفتها أمريكا لن تدخل معركة عسكرية ضد تركيا لأجل قسد. ومن جهة أخرى، الارتماء في أحضان روسيا والنظام لا يعني في النهاية إلا نهاية المشروع السياسي لقسد لأن النظام والروس يرون في هذا المشروع امتدادا للمشروع الأمريكي، وتهديدا لمركزية السلطة المسيطر عليها من قبل النظام وقسد داخل هذه المعادلة السياسية، والتي نتيجتها الدائمة هي نتيجة خاسرة بالنسبة لقسد، ولعل نتائج معركة غصن الزيتون ونبع السلام خير دليل على مصداقية هذه المعادلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى