مقالات

إشكالية الهوية الوطنية بين الشعب والأمة

كثيراً ما يتم الخلط بين مصطلحات من قبيل “الشعب العربي” و “الشعب الكردي” و ” الأمة العربية” و”الأمة الإسلامية”، أو يتم استخدامها على سبيل الترادف، رغم اختلاف مدلول كل منها. وكثيراً ما تسبب ذلك في تدافعات فكرية واختلافات، تطورت أحياناً إلى خلافات أيديولوجية وانقسامات سياسية واجتماعية نلمسها بوضوح في الحالة السورية، ليبرز سؤال الهوية الوطنية الجامعة كأحد الأسئلة الوجودية التي تستعصي عن الإجابة، ما يدعو إلى بيان الفرق بين الشعب والأمة، فلعل التمييز بين المفهومين هو الفيصل في الإجابة على ذلك السؤال والمدخل لحل إشكالية الهوية الوطنية السورية.

فالشعب بالتعريف القانوني هو “مجموع الأفراد الذين يقيمون بصفة دائمة على إقليم الدولة ويحملون جنسيتها”، ومن منهم لا يحمل جنسية الدولة فهو من ضمن السكان وليس من ضمن الشعب. ويترتب على ذلك أن الرابط بين أفراد الشعب في الدولة، هو جنسية الدولة، وهو رابط قانوني وسياسي وجغرافي بالمقام الأول. فالسوري أو التركي أو العربي أو الكردي، الذي يقيم إقامة مؤقتة في ألمانيا مثلاً، ثم يحصل على الجنسية الألمانية، يصبح لحظة حصوله عليها مواطناً ألمانياً، وبالتالي أحد أفراد الشعب الألماني له ما لهم من الحقوق المدنية والسياسية وعليه ما عليهم من الالتزامات، أما قبل ذلك فهو واحد من السكان المقيمين بشكل مؤقت. ومعنى ذلك أنه بالإضافة إلى شرط الجنسية هناك شرط آخر مرتبط به هو ديمومة الإقامة. وتلك الدائمية في الإقامة، هي بالمعنى القانوني أيضاً وليست بالمعنى الواقعي، أي أن خروج ذلك الفرد من الدولة لفترات قصيرة أو حتى طويلة، للسياحة أو للعمل أو غير ذلك، لا تعني أن إقامته ليست دائمة، وإنما العبرة في ذلك حصوله على الإقامة الدائمة رسمياً بعد أن كانت مؤقتة رسمياً.  أما الأمة، فهي مجموع الأفراد الذين تجمعهم انتماءات تاريخية أو ثقافية، عرقية أو لغوية أو دينية، أو كل ذلك معاً. ويمكننا القول أن تلك الانتماءات هي روابط طبيعية وتلقائية، وليست  مقننة ومنظمة كتلك التي تجمع أفراد الشعب الواحد على اختلاف انتماءاتهم الطبيعية المتأصلة. لذلك نجد أن مفهوم الشعب مرتبط بصلة لا انفكاك لها بمفهوم الدولة، إذ لا دولة من دون شعب، من جهة، ولكل دولة شعبها الواحد مهما تنوعت انتماءاته وتعددت. من جهة أخرى، فالشعب الأمريكي، مثلاً، هو من أكثر الشعوب تنوعاً في العالم، فهو يتكون من أفراد ينتمون إلى كل الأعراق والأديان والثقافات والطوائف الموجودة على سطح البسيطة، ومع ذلك، لا يقال الشعوب الأمريكية وإنما الشعب الأمريكي، أي أنه لا يمكن تصور دولة بشعبين أو ثلاثة شعوب وإلا كنا أمام دولتين أو ثلاث دول. وعليه فإن عبارة الشعب العربي في سوريا، ومثلها الشعب الكردي في سوريا، عبارات خاطئة، وتفتح باباً قانونياً، لا سياسياً واجتماعياً وحسب، لتقسيم الدولة السورية، وزوال وجودها القانوني بحدودها المعروفة.

والشعب، وفق هذا المفهوم، له حق تقرير المصير والمطالبة بالاستقلال، وفقاً لمبدأ حق تقرير المصير، كأحد المبادئ التي اعتمدها التنظيم الدولي وميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وهذا الحق أعطي للشعوب في الدول الواقعة تحت الاحتلال أو الانتداب أو الوصاية، وانتهت مفاعيله منذ أن حصلت تلك الدول على استقلالها، ولم يعد من الممكن تفعيله إلا إذا توفرت إرادة دولية جماعية بتقسيم دولة ما من دول العالم المعاصر، كما حدث مع جنوب السودان.

 إلا أن المبدأ الأهم الذي قامت عليه منظمة الأمم المتحدة، هو مبدأ سيادة الدول واستقلالها، وما نتج عنه من التزام دولي جماعي مستقر باحترام ذلك المبدأ والبناء عليه في أية حلول وتسويات للأزمات الدولية، وأصبحت كل دولة، صغيرة أو كبيرة، تتمسك بسيادتها واستقلالها وسلامة حدودها وإقليمها في مواجهة كل الدول والمنظمات الدولية، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن تقوم تسوية النزاعات الداخلية والحروب الأهلية، على تغيير شكل تنظيم الدولة، ولكن لا يمكن تغيير حدودها مالم يتغير شكل التنظيم الدولي برمته، ذلك التنظيم الذي استقر و ترسخ بعد حربين عالميتين خسرت فيهما البشرية ملايين الأرواح والأموال ولا يمكن تغييره إلا بحرب كونية ثالثة يرجح أن تكون كلفتها تهدد الوجود البشري عينه،  لا الوجود الدولي وحسب.

أما الدولة – الأمة ، وهي التي ينطبق مفهوم الشعب فيها على مفهوم الأمة، فلا يمكن أن تتحقق إلا بالطريق الإرادي وليس بالطريق القسري، ويتم ذلك في حالتين: الأولى هي أن تجتمع إرادة شعبين أو أكثر، لأمة واحدة في دولتين أو أكثر، على الاندماج والانصهار في دولة واحدة (كما حصل في الألمانيتين إبان انهيار جدار برلين فأصبحت الأمة الألمانية موجودة في دولة واحدة بعد أن كانت شعبين في دولتين)، والثانية  أن تلتقي إرادات المكونات المتعددة للشعب الواحد في الدولة على عقد اجتماعي رصين يبني هويتهم الوطنية الجامعة على قاعدة منظومة القيم السياسية والاجتماعية، وتحقيق المصالح المشتركة لأفراد الشعب، ومؤدى ذلك تقدم أولوية الانتماء الوطني (الانتماء للدولة)، على الانتماء لما وراء حدودها (الانتماء للأمة) أو ما دونها ( الانتماء للعرق أو الطائفة)، إذ لا تعارض مطلقاً بين الانتماءين الثقافي والقانوني، وهذه الحالة هي ما ينبغي أن يتحقق في سوريا وهو مفتاح تشكل الهوية الوطنية الجامعة التي بدأت بالتشكل في خمسينيات القرن الماضي وما لبثت أن تعثرت وارتبكت في زمن الانقلابات والوحدة مع مصر، ثم تلاشت في  حقبة البعث والأسد.

يظهر ما تقدم بيانه، أن النظريات الأممية التي تطرحها بعض الأحزاب هنا وهناك، ليست سوى بيع للأوهام والأحلام التي لا يمكن أن تتحقق دون حرب كونية لا تبقي ولا تذر. ورغم أن تلك الأحلام التي يحملها أبناء الأمة الواحدة جميلة ونبيلة، إلا أن المتبصر في الواقع الدولي وعالم ما بعد الحربين وقواعد القانون الدولي، يدرك بأنها مجرد كوابيس مدمرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى