ليحكم سوريا من يشاء
يلاحظ أغلب المراقبين الطريقة العجيبة التي يتصدى بها السوريون لفكرة مرشح الرئاسة المستقبلي، وخلال سنوات الثورة الطويلة طرحت عدة أسماء كمرشحين مستقبليين لحكم سوريا؛ بعض هذه الأسماء طرحت كبالون اختبار، وبعضها طرح من أجل حرقها أو التشهير بها، والبعض طرح اسمه من تلقاء نفسه ربما بدافع نرجسي أو شيء آخر، والبعض كان يهدف إلى الشهرة، وربما البعض طرح اسمه بالصدفة، أو لسبب آخر. وحيال هذه القضية يمكن تسجيل ملاحظتين: الأولى: والتي يمكن استخلاصها من رد فعل السوريين حيال أي شخص يرشح نفسه، أو يرشحه الآخرون، وهي أن السوريين يستحيل أن يتفقوا على أحد كحاكم لسوريا المستقبل! والثانية: أن مقولة: “كل سوري يعتقد نفسه سياسيا، وواحد من اثنين يعتبر نفسه قائدا وطنيا، … الخ. التي تنسب إلى رئيس سوريا السابق شكري القوتلي، وإن كانت موضع شك، فيبدو أن من نسبها إليه كان شخصا دقيق الملاحظة، فبالفعل، يبدو أن فكرة الرئاسة تداعب مخيلة عدد كبير من السوريين، وأن الأغلبية يعتبرون أنفسهم ساسة من الطراز الرفيع.
في بلد مثل سوريا، تعتبر ظاهرة تشتت آراء الشعب، وصعوبة الوصول إلى اتفاق حول شخصية وطنية تنال رضا الأغلبية ظاهرة طبيعية. ويعود ذلك لعدة أسباب، يرتبط معظمها بالموقع الجغرافي لسوريا. وعن هذا يقول “رايموند هينبوش” في دراسته: “تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث”: “إن كونها جسرا بريا بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، والتي ولدت (التنقلات والغزوات) تعددية ثقافية اجتماعية… هذه التعددية والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها. أي، تقوقع الجماعات الصغيرة المكونة للمجتمع السوري على ذاتها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاما شاملا موحدا ينتج قوى متكافئة تشاركية. كما أن سورية، التي كانت جائزة تنازعتها الإمبرطوريات المتنافسة، وربما بسبب موقعها المكشوف، لم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا ينزع إلى الابتعاد عن المركز” إذن، فسوريا دولة حديثة العهد، وتمتاز بتنوع عرقي وديني ومذهبي كبير. ويمكن أن نضيف إلى ذلك؛ النظرة التي ترسخت في ثقافة السوريين وفي ذاكرتهم حول مقام الرئاسة، أو منصب الرئيس، فخلال سنوات حكم البعث الطويلة؛ أُفهم السوريون بأن الرئيس هو الدولة، والدولة هي الرئيس.
رغم ذلك، وبدل محاولة تجاوز تلك العقبات، استخدم النظام السوري – كما غالبية النظم الحاكمة في الشرق الأوسط – تكتيكات «فرق… تسد» في إدارة المجتمع الداخلي قبل اندلاع انتفاضات الربيع العربي الأخيرة. ويوم بعد يوم، مارس سياسات الترغيب والترهيب. ويميل حكام الجمهوريات العربية، كما هو الحال في سوريا، إلى استخدام نسخة أكثر سوءا من هذه المقاربات، وهي إضفاء الطابع المحلي على العدد الكبير من السكان، ويعود السبب في ذلك إلى أن هؤلاء الحكام ليست لديهم شرعية ديمقراطية تذكر، لا من الناحية التقليدية، ولا من الناحية الدينية. ولذلك، نلاحظ، على سبيل المثال، أن المسلمين السنة في سوريا، هم: دمشقيون، حلبيون، حمويون، …. الخ من هذه التسميات المناطقية، لدرجة دعت البعض لأن يقول: ليس هناك سنة في سوريا.
وفي سلوك آخر قد يتجاوز مستوى التكتيك ليصل إلى مستوى الاستراتيجية؛ لجأ النظام السوري إلى تطبيع الفساد. أي، جعل فساد النظام طبيعيا، حيث حول البلد برمتها إلى جوقة تعزف لحن الفساد. فنتيجة الجو العام السائد، وبأسلوب ممنهج؛ دُفع أغلب السوريين إلى المشاركة بأعمال الفساد لكي يصبح فساد السلطة أمرا طبيعيا، وربما يصعب على المرء أن يجد شخصا راشدا في سوريا لم يشارك من قريب أو من بعيد في أعمال الفساد، وفي حال وجد هذا الشخص فهو على الأغلب إنسان كان يعيش في الظل وما يزال. وعليه، فالبحث عن إنسان صاحب سجل نظيف، قد يعتبر ضربا من الخيال. مثل هكذا شخصية قد يمكن العثور عليها بين بعض السوريين الذين غادروا سوريا منذ زمن بعيد. ولكن حتى هؤلاء رغم الاعتقاد بأنهم الأنسب، فإن الثقافة السورية التي تعود في معظم مفرداتها إلى النظام السوري ذاته؛ ترفض هؤلاء على أنهم ربما عملاء، وربما هم فقدوا وطنيتهم ولم يعودوا موضع ثقة لأنهم يحملون ثقافة غريبة عن ثقافة هذه البلاد.
إنها معضلة حقيقية! لكنها ليست مستحيلة الحل، والحل موجود في جملة قالها “نيكولو ميكافيلي” عنما قال في كتابه: “المطارحات”: “كمبدأ أساسي ومقرر أنه لا يمكن إعادة الحرية بالنسبة إلى الدولة التي يحكمها أحد الأمراء والتي غدت فاسدة، حتى ولو أزيل الأمير وجميع من يلف حوله من الوجود، والحل في ذلك هو في تسلم أمير صالح، ورغم ذلك، قد ترتبط الحرية بعمر وحياة هذا الأمير، ولكن دورية إعادة تقويم القوانين والتنظيمات هي عامل مساعد في ضمان استمرار الحرية”.
إذن، فالأمير أو الحاكم الصالح فيما لو تم العثور عليه – رغم كل العقبات – لن يكون حلا لمطالب الشعب السوري المتمثلة بالحرية والعدالة والكرامة. لأن هذا الحاكم الصالح قد يضمن تحقيق تلك المطالب طالما هو في سدة الحكم. ولكن لا أحد يستطيع أن يضمن أن يكون خلفه صالحا، والتاريخ متخم بالأمثلة التي تثبت هذه المقولة. وعليه، فالضامن الوحيد لأن تصبح تلك المطالب أو الأهداف تكتسب صفة الاستمرارية؛ هي القوانين والتنظيمات التي تحدد مهام الحاكم وتقيدها، والإجراءات والاستحقاقات التي تضمن سيادة القانون وعدم المقدرة على اختراقه أو التلاعب به.
مختصر القول: دعونا نلتفت إلى صياغة عقدنا الاجتماعي، والدستور الذي يعبر عنه، والأنظمة والضوابط التي تضمن سيادة القانون، وبعدها ليحكم من يحكم، أو ليتصدى لهذه الوظيفة من يتصدى. فالحاكم ليس أكثر من موظف لدى الشعوب الحرة.