مقالات

ليبيا مرة أخرى

ع انطلاق ثورات الربيع العربي، راقب الكثير من السوريين تطورات الأحداث في ليبيا، لما وجدوه من تشابه بين النظامين السوري والليبي، إلا أن هذا المراقبة توقفت نتيجة لتطورات الأحداث التي اتخذت مسارات مختلفة.مؤخرا، عادت عوامل التشابه لتفرض نفسها من جديد، وهو ما اضطر معظم السوريين إلى العودة مجددا لمراقبة الساحة الليبية.

منذ البداية كان السوريون يعلمون أن سقوط نظام بن علي في تونس، ونظام مبارك في مصر، ليس كافيا للبرهان على أن مظاهراتهم التي كانوا يحضرون لها، سوف تحصد نفس النتائج وبالسهولة ذاتها. فالسيناريو الذي حصل في تونس ثم في مصر يستحيل أن يتكرر في سوريا، فالنظام السوري رغم أنه يصنف مع باقي الأنظمة العربية على أنه نظام ديكتاتوري، إلا أنه يختلف عن باقي الأنظمة العربية اختلافات جذرية، سواء من حيث البنية العسكرية والأمنية، أو من حيث طبيعة التحالفات، أو من حيث طبيعته الإجرامية التي أفصح عنها في أكثر من مناسبة. ورد الفعل الذي كان يتوقعه السوريون من النظام فيما لو عبروا عن رغباتهم في التغيير من خلال التظاهر، هو رد شبيه برد الفعل الذي رآه الجميع من نظام القذافي، بل وربما أشد قسوة. ومع ذلك، قرر ثوار سوريا خوض تلك المغامرة، فمعظم السوريين يعتقدون أنهم أحوج الشعوب العربية إلى الثورة. فالنظام السوري لم يكتف بأن يقدم نفسه للسوريين على أنه كابوس مرعب، بل أضاف إلى ذلك وبشكل علني أنه أبدي.

جاء التدخل الدولي في ليبيا لحماية المدنيين والذي انتهى بإسقاط نظام القذافي؛ ليمنح الثوار السوريين جرعة من الأمل بعد أن كان خيار الثورة أشبه بمغامرة غير محسوبة العواقب، فالنظام السوري إن خاف أن يحل به ماحل بالنظام الليبي فلن يتجرأ على التصرف بوحشيته المعهودة، وبالتالي ستسقطه الساحات، أما في حال التجرؤ على المتظاهرين فالتدخل الدولي كفيل بإسقاطه، وعليه بات السوريون يرقبون التطورات في ليبيا على اعتبار أن الساحتين السورية والليبية مترابطتين.

كسر السوريون حاجز الخوف وانطلقوا إلى الساحات بأعداد هائلة، لكن الذي حصل كان خارج التوقعات، فالنظام السوري لم يستكن، لكنه في نفس الوقت لم يطلق العنان لوحشيته وقسوته المعتادة، وإنما اختار أسلوب التدرج في القسوة التي بدأت بقنص بعض المتظاهرين، وانتهت بتدمير المدن على رؤوس ساكنيها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يبد المجتمع الدولي استعداده للتدخل رغم المجازر الكثيرة التي حصلت، ورغم استخدام النظام السوري للسلاح الكيميائي المحرم دوليا في تنفيذ بعض المجازر واكتفى بالتنديد.

مؤخرا وبعد التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الساحة السورية، وبعد أن أعاد النظام السوري احتلال معظم المناطق التي خرجت عن سيطرته في البداية، وخاصة بعد أن استعان بالقوات الروسية وخاصة الجوية منها، حيث لم تفلح المساعدات الإيرانية عن طريق زج ميليشياتها الطائفية إلى جانب النظام في إنقاذه، وصلت الأمور إلى نقطة حرجة، فلم يتمكن النظام من احتلال إدلب بعد أن أعد العدة لذلك بمعية حلفائه؛ نتيجة الموقف الصلب الذي أبدته الحكومة التركية، والذي تمخض عنه اتفاق موسكو بين كل من تركيا وروسيا، والذي أعلن من خلاله عن تهدئة في إدلب. تهدئة شكك مراقبون بصمودها، بينما رأى مراقبون آخرون غير ذلك، فالقوات التي استقدمتها الحكومة التركية إلى إدلب كافية لجعل النظام وحلفائه بحاجة لحساب ألف حساب عند التفكير باجتياح إدلب مرة أخرى.

بعد انقطاع طويل، يجد السوريون أنفسهم مرة أخرى أنهم بحاجة لمراقبة الساحة الليبية، فأطراف الصراع في سوريا وجدوا أنفسهم مرة أخرى وجها لوجه في ليبيا، فتركيا وروسيا، رغم اختلاف دورهما في ليبيا عن دورهما في سوريا من حيث موقع الحليف في معادلة الصراع، ورغم اختلاف اللاعبين الإقليميين المتداخلين في الأزمة الليبية، إلا أن النتيجة في المحصلة، أنهما وجها لوجه في منازلة جديدة، ومن هنا يتوقع أن حكومة الوفاق المدعومة تركيا، لن يسمح لها بالحسم في ليبيا، وهو المرجح، لكن الاحتمال الآخر إن حصل فسوف يتسبب بزعزعة التهدئة في إدلب دون أدنى شك. ورغم ذلك، لا يمكن التعاطي مع الأمور بتلك البساطة، فروسيا وتركيا ليسا اللاعبين الوحيدين سواء على الساحة الليبية، أم على الساحة السورية، وكلتا الأزمتين وصلتا إلى درجة كبيرة من التأزم والتعقيد، وفي عالم وصل إلى قناعة شبه تامة أن الحروب لا تجلب سوى الدمار والخراب، عالم فرضت العقلانية نفسها فيه كخيار وحيد لصناع القرار، يجب التوقع أن الحلول قد اقتربت، تفاديا للانفجار. ومع ذلك، فربط التطورات التي تحصل في الساحة الليبية مع التحركات على الساحة السورية أصبح ضرورة في كل تحليل أو تنبؤ يخص القضية السورية. هذا مع ضرورة التذكير أن القضية السورية بالنسبة إلى تركيا، تختلف من حيث الأهمية عن القضية الليبية، ففي سوريا تعتبر تركيا أن المسألة مسألة أمن قومي، بينما هي في ليبيا لا تصل إلى هذا الحد.

 يبدو أن قدر السوريين أن يراقبوا الساحة الليبية في النهاية، كما راقبوها في البداية، ولكن هذه المرة مراقبة بهدف التحليل والتنبؤ، وربما اقتناص الفرص لجزء من فعل رغم ان الفعل بات محدودا جدا، فالقضية السورية خرجت من أيدي السوريين، وذلك منذ أمد بعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى