مقالات

في اليوم الدولي للمهاجرين، كيف يمكن ربط الهجرة بالتنمية، والحد من نزيف الأدمغة؟

في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الاول من كل عام يصادف اليوم الدولي للمهاجرين الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 ديسمبر/كانون الأول 2000، وهو ذات التاريخ الذي تم فيه اعتماد الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين في عام 1990، وهذا اليوم مخصص للاعتراف بأهمية مساهمات المهاجرين واللاجئين، مع تسليط الضوء على التحديات التي يواجهونها خاصة مع تزايد الهجرة في جميع أنحاء العالم، كما يهدف الاحتفال في هذا اليوم من قبل الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها إلى لفت الانتباه إلى حقوق الإنسان للمهاجرين واللاجئين وتسليط الضوء على مساهمتهم في المجتمعات المضيفة، والتداعيات التي خلفتها هجرتهم على مجتمعاتهم الأصلية.

تشكل الخسائر البشرية إحدى أهم الآثار بالغة الخطورة للحروب والصراعات، وهذه الخسائر لا تقتصر فقط على القتلــى والجرحــى والمعاقين، وإنما تمتد أيضاً لتشمل اللاجئين والمهجرين والنازحين والمحـرومين مـن حـق العـودة إلى ديارهم الأصلية، الأمر الذي يتسبب في خسارة البلدان التي تعاني من الصراعات كفاءاتها العلمية لصالح دول أخرى تعمل على استقطابهم والاستفادة من خبراتهم والمهارات التي يحملونها. وبحسب الأمم المتحدة فإنه في عام 2020، كان هناك ما يزيد عن 281 مليون لاجئاً ومهاجراً دولياً وأكثر من 59 مليون نازح داخلي بنهاية عام 2021، أي ما يعادل نحو 3,5 % من سكان العالم، بسبب انتشار الحروب والصراعات والاضطهاد واستمرار التدهور الاقتصادي في العديد من البلدان واستمرار الأنظمة الدكتاتورية في قمع شعوبها والتضييق عليهم. وبسبب النقص المستمر في مسارات الهجرة المأمونة والنظامية، يواصل الملايين رحلات محفوفة بالمخاطر كل عام. ومنذ عام 2014، قضى أكثر من 50 ألف مهاجر نحوبهم على طرق الهجرة.

ومما لا شك فيه أن الخوض في قضايا الهجرة معقد جداً بسبب التشعبات الكبيرة لهذه الظاهرة وجوانبها الإيجابية والسلبية. مع ذلك أريد الاشارة في هذه المقالة القصيرة بشكل سريع إلى قضيتين أساسيتين، الأولى علاقة الهجرة بالتنمية وتداعيات هجرة الأدمغة، والثانية فكرة إمكانية إنشاء عالم خالٍ من اللاجئين والمهاجرين.

تشير العديد من الدراسات البحثية إلى أن للهجرة الدولية تأثير هائل على الديناميات الديموغرافية وأسواق العمل والعمليات الاجتماعية والاقتصادية في كل من البلدان المستقبلة والمرسلة، وتركز هذه الدراسات على وجود جوانب إيجابية للهجرة خاصة بالنسبة إلى الدول المستضيفة، حيث قدم المهاجرون واللاجئون مساهمة كبيرة في التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه البلدان، كما تشير هذه الدراسات إلى أن هناك الكثير من الروابط التي تربط الهجرة مع التنمية بشرط توافر السياسات الملائمة لذلك، وهو ما اعتمدته دول الاتحاد الاوروبي في السنوات الأخيرة للاستفادة من خبرات اللاجئين والمهاجرين ومهاراتهم المتميزة في العديد من المجالات بعد تبني سياسات مرنة تتعلق بالاعتراف وتعديل شهاداتهم الصادرة خارج الاتحاد الاوروبي لتسهيل انخراطهم في سوق العمل.

وتعتقد لجنة المجتمعات الأوروبية أن الروابط بين الهجرة والتنمية توفر إمكانات كبيرة لتعزيز الأهداف الإنمائية للدول، دون أن تشكل بديلاً عن المساعدة الإنمائية الرسمية المعززة والسياسات المحسنة التي تظل ضرورية أكثر من أي وقت مضى لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية في الإطار الزمني المتفق عليه. لذلك تبقى قضية الهجرة والتنمية على رأس جدول أعمال سياسات الاتحاد الأوروبي، كما تنظر البلدان والمنظمات الدولية بشكل متزايد إلى الهجرة على أنها ظاهرة يمكن أن تكون آثارها الإيجابية في مجال التنمية كبيرة، بشرط وجود السياسات المناسبة.

من جانبها أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر من العام 2018 “الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية“، وهو اتفاق غير ملزم إلا أنه يوفر رؤية شـــاملة وجامعة للهجرة الدولية، ويؤكد على الحاجة إلى نهج شـــــــامـل لتعظيم الفوائـد العـامـة للهجرة، مع معـالجـة المخـاطر والتحـديات التي يواجههـا الأفراد والمجتمعات في بلدان المنشـــأ والعبور والمقصـــد. وأكد الاتفاق العالمي على أنه لا يمكن لأي بلد بمفرده مواجهة التحديات والفرص الناجمة عن هذه الظـاهرة العـالميـة. كما يهدف هذا النهج إلى تيســـــــير الهجرة الآمنـة والمنظمـة والنظـاميـة، مع الحـد من حـدوث الهجرة غير النظـاميـة والتقليـل من أثرهـا الســـــــلبي من خلال التعـاون الـدولي واعتمـاد مجموعـة التدابير التي نص عليها الاتفاق.

بالمقابل لا تملك الدول النامية مثل الدول العربية عموماً وتركيا أية سياسات واضحة للاستفادة من مهارات اللاجئين في التنمية المختلفة، وغالباً ما يوجد هؤلاء في المنطقة العمياء للحكومات في هذه الدول، وتشكل الإجراءات البيروقراطية المعقدة في مجال تعديل الشهادات والاعتراف بكفاءاتهم، والسماح لهم بالعمل، إضافة إلى أسباب أخرى، عوامل طرد لهؤلاء تدفعهم إلى الهجرة باتجاه الدول الغربية حيث باتوا يشكلون مصدراً للابتكار والتنمية المستدامة في هذه الدول، إلى جانب مساهماتهم المالية التي يوفرونها لبلدانهم الأصلية من خلال التحويلات المالية التي تشكل شريان حياة لأسرهم وتحفز الأسواق المحلية في البلدان منخفضة الدخل. وخلال السنوات الماضية خسرت تركيا والدول العربية الآلاف من ذوي الكفاءات السوريين بسبب عدم تبنيها سياسات مرنة لاستقطابهم والاستفادة من خبراتهم ومهاراتهم في مختلف المجالات بما فيها التعليم والصحة والاقتصاد والفن والرياضة…

مع ذلك تتضمن ظاهرة الهجرة مخاطر متعددة ومركبة تتطلب تضافر الجهود لوضع سياسات وتطوير معايير للحد من تداعياتها السلبية على الدول المصدرة خاصة على صعيد نزيف الأدمغة الذي باتت تعاني منه هذه الدول بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة. لذا يتوجب على حكومات هذه الدول تطوير سياساتها لضمان مساهمة الهجرة في برامج التنمية التي تعتمدها على المستوى الوطني والإقليمي. يجب أن تستند هذه السياسات إلى أفضل الممارسات التي يجري تطويرها من قبل الباحثين أو الجهات الفاعلة من غير الدول ودمجها في سياساتها الوطنية لتحسين تأثير الهجرة على التنمية. ويمكن أن تلعب عودة المهاجرين، حتى المؤقتة منها، دوراً مفيداً في تعزيز نقل المهارات إلى هذه الدول، من خلال تبني سياسات وبرامج بين الدول النامية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين لدعم عودة المهاجرين واللاجئين خاصة أولئك الذين يعملون في المجالات ذات الأهمية المباشرة للمساهمة في تنمية هذه البلدان على أن تتضمن هذه السياسات إجراءات عملية تدعم العودة الطوعية اللاجئين إلى بلدانهم وإعادة دمجهم فيها من جديد.

مع ذلك تبقى مواجهة الآثار السلبية لهجرة الأدمغة تشكل تحدياً هائلاً أمام البلدان النامية، لذلك يجب أن تكون الاستجابات السياساتية تقوم على معالجة أسباب هجرة الأدمغة، وأن تكون متلائمة مع الاحتياجات والتحديات الخاصة بكل بلد متضرر من هذه الهجرة. إلى جانب إقامة شراكات بين المؤسسات البحثية والجامعات أو الهيئات الأخرى في البلدان النامية والدول الغربية للتخفيف من هجرة الأدمغة وتشجيعها على العودة الطوعية إلى بلدانهم الأصلية، واستقطاب هذه الأدمغة من قبل بعض الدول العربية خاصة الخليجية منها للاستفادة من خبراتهم في مجالات التنمية كافة من خلال نقل المهارات والمعارف التي طوروها في بلاد المهجر. إلا أن الواقع يشير عموماً إلى عدم امتلاك الدول العربية لبرامج مشجعة قادرة على اقناع المهاجرين واللاجئين من أصحاب الكفاءات بالعودة إلى هذه البلدان والحد من هدر الأدمغة التي تنتقل بشكل مستمر من الجنوب إلى الشمال، في حين أن الدول الغربية اتخذت إجراءات عملية لاستقطاب هؤلاء من خلال تسهيل الاعتراف بمهاراتهم ودمجهم في المجتمعات العلمية في هذه الدول.

أما القضية الثانية التي تدور حول فكرة امكانية إنشاء عالم خال من اللاجئين والمهاجرين، فهي تبدو أقرب إلى الخيال مع استمرار الحروب والصراعات في الدول النامية، وغياب الديمقراطية واستمرار الأنظمة القمعية في العديد من هذه الدول، إضافة إلى الهوة الكبيرة بين هذه البلدان والدول الغربية في مختلف المجالات خاصة بيئات العمل المناسبة والأجور ومستوى المعيشة واحترام حقوق الإنسان والحرية الأكاديمية التي توفرها هذه الدول للمهاجرين الأمر الذي يعقد مسألة إيقاف تدفق اللاجئين والمهاجرين أو عودتهم إلى بلدانهم الأصلية للمساهمة في تنميتها ووضع خبراتهم ومهاراتهم في خدمة شعوبهم في كافة القطاعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى