مقالات خارجية

الشمال المحرر من الجمود إلى الحوكمة

في أيلول الجاري زار مناطق الشمال المحرر بريف حلب، وفد من المستثمرين السوريين والعرب، من أجل تحسين الوضعِ المعيشي والاقتصادي لأبناء المنطقة، والمساهمةِ في توفير مستلزماتهم الحياتية من خلال إطلاق مشاريعَ استثمارية على مراحل، وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد استثنت في أيار الماضي مناطق محددة في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام من عقوبات قيصر.

ورغم التحفظات العديدة لمختلف الأطراف حول الأبعاد والدوافع والتداعيات السياسية لذلك الإعفاء الانتقائي، إلا أن الكثيرين وجدوا فيه فرصة اقتصادية لتحسين الواقع الاقتصادي في مناطق المعارضة إن أحسن استغلالها، وهو ما دفع كل الحريصين على المطالبة بحوكمة المناطق المحررة لتهيئة البيئة اللازمة لجذب رؤوس الأموال، بما ينعكس تحسناً في الواقع المعيشي الصعب لسكان المحرر مقيمين ومهجرين، ما يدفعنا للتدقيق في مفاهيم مثل النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة والحوكمة وارتباطها ببعضها وصولاً إلى متطلبات تطبيقها في واقعنا.

فالنمو الاقتصادي (Economic Growth) يتضمن كافة العمليات التي تسعى لاستغلال موارد الدولة من أجل زيادة الدخل القومي وتحقيق أعلى معدلات الدخل للأفراد والشركات، باستخدام كافة عوامل الإنتاج من موارد طبيعية وبشرية ورأس مال من أجل زيادة كمية السلع والخدمات، بهدف تحسين مستوى دخل الفرد، وتوفير الاحتياجات الأساسية بأسعار معقولة في متناول الجميع، وخلق المزيد من فرص العمل، بما ينعكس تحسناً في المستوى الصحي والتعليمي والاجتماعي للأفراد، ويسهم في نمو الدخل المحلي. 

 أما التنمية الاقتصادية Economic Development) ) فهي مجموعة من الإجراءات التي يتبعها صناع القرارات والسياسات من أجل تعزيز الدخل، وتحسين مستوى المعيشة والصحة والتعليم، بالاستفادة من التكنولوجيا المتطورة والاستثمار في الإمكانات والطاقات العلمية والمعرفية المتنوعة، والذي ينعكس بدوره على المجتمع بشكل إيجابي، ويتطلب ذلك دعم رؤوس الاموال التي تعاني ضعفاً أو عجزاً، والاهتمام بالتبادل التجاري، ومعالجة الفساد الإداري،  وتقليل معدلات البطالة، والعمل على تقليص الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين طبقات المجتمع بالقضاء على الفقر وعدم المساواة، والمشاركة المجتمعية في عملية التنمية لزيادة تقبل المجتمع للتغير نحو التنمية الاقتصادية.

من هنا فالنمو الاقتصادي يركز فقط على دخل الناس (الجانب الاقتصادي) ولكنه مقدمة وشرط أساسي للتنمية الاقتصادية التي تتجاوز البعد الاقتصادي إلى الأبعاد الأخرى الاجتماعية والثقافية والسياسية.

والتنمية الاقتصادية تتعلق بإشباع حاجات الجيل الحالي، فإذا أخذنا بعين الاعتبار، عند عملية التخطيط التنموي، حقوق ومصالح الأجيال القادمة، فهنا يصبح الحديث عن التنمية المستدامة (Sustainable Development)، فالتنمية المستدامة في الزراعة والغابات والمصادر السمكية مثلاً، تتطلب حماية الأرض والمياه والمصادر الوراثية النباتية والحيوانية ولا تضر بالبيئة، وهو ما أضاف المحتوى البيئي إلى مفهوم التنمية، فتكون حماية البيئة والاستخدام المتوازن للموارد الطبيعية جزءاً لا يتجزأ من عملية التنمية المستدامة حمايةً لحقوق الأجيال القادمة، وذلك يتطلب أربعة أنواع من الاستدامة، مؤسسية واقتصادية وبشرية وبيئية:

 فالاستدامة المؤسسية تُعنى بالمؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص، وإلى أي مدى تتصف تلك المؤسسات بالهياكل التنظيمية القادرة على أداء دورها في خدمة مجتمعاتها.

والاستدامة الاقتصادية تعني اعتماد سياسات تكفل استمرار الأنشطة الاقتصادية بالمجتمع وأداء الدور المنتظر منها، وتكون في نفس الوقت ملائمة للبيئة من خلال دمج الاعتبارات البيئية عند التخطيط للتنمية فلا يتم الإضرار برأس المال الطبيعي وهو ما يعرف بالاستدامة البيئية.

والاستدامة البشرية تستهدف زيادة القدرات التعليميّة والخبرات العمليّة للمواطنين لتشجيعهم على العمل المتواصل بعيدًا عن الشعور بالكسل أو العجز، من خلال التعليم والتدريب ونشر الوعي والثقافة.

ولو أردنا جمع الأشكال الأربعة لاستدامة التنمية ومتطلبات تحقيقها في مصطلح واحد، فلن نجد أفضل من مصطلح الحوكمة (GOVERNANC)، إذ تُعتبر الحوكمة الرشيدة مفتاحاً لتحقيق التنمية المستدامة ورفاهية الإنسان، فهي تتطلب مرتكزات سياسية تتمثل في شرعية السلطة وسيادة القانون والمشاركة وفعالية الحكومة والمؤسسات عموماً، كما تتطلب مرتكزات اقتصادية واجتماعية تتمثل في الرؤية الاستراتيجية المتضمنة للتخطيط الجيد والتنظيم الفعال والسيطرة على الفساد بتوسيع أفق الرقابة والمساءلة.

ولا شك أن الشمال المحرر يفتقر بشكل حاد لكل مرتكزات الحوكمة، مما يعيق الاستفادة من الفرصة المتاحة، ولكن ذلك لا يعني الاستسلام لذلك الواقع المؤسف، بل يضع الجميع من مؤسسات وجهات ونشطاء مجتمع ومراكز أبحاث ويضع قبل ذلك ومعه الفصائل العسكرية، أمام تحدي البحث عن نقطة البداية لانطلاق عملية الحوكمة التي ستنقلنا من مرحلة الجمود والتخلف الاقتصادي إلى مرحلة التنمية واستدامتها، من خلال:

أولاً، توفير للأمن والاستقرار اللازمين لعملية التنمية، باعتماد الأطر القانونية والهياكل المؤسسية التي تكفل تحقيق مبدأ سيادة القانون وإنفاذه،  وثانياً، ابتكار صيغة علاقة بين مركزية الحكومة ولا مركزية المجالس المحلية، مع تمكين منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص وتنظيم العلاقة معها بما يؤهلها للمشاركة في عملية التخطيط ووضع السياسات الاقتصادية الملائمة، ولا بد أيضاً من اعتماد سياسات تنمية بشرية للمواطنين تدفعهم للمشاركة في عملية التنمية، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات الاستدامة البيئية للحفاظ على الموارد الطبيعية من أشجار وغابات ومصادر مياه حفظاً لحقوق الأجيال الراهنة والمستقبلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى