الشعب السوري … تصحر أم نبوغ سياسي!
عانى الشعب السوري من التصحر السياسي لمدى خمسين سنة في ظل نظام الأسد ” عبارة تتردد في عشرات المقالات والكتب التي تتناول القضية السورية، وعلى الضفة المقابلة يمكن لك أن تسمع من عديد من نخب المجتمع، وحتى من مواطن عادي عبارة: “الشعب السوري بمجمله سياسي، ويعرف بالسياسة” في إشارة لأهمية هذه المعرفة ودورها المحوري في وعي المجتمع السوري. ويتضح تماما أن العبارتين متناقضتين تمام التناقض فأيهما الأصح؟
يروي من كان يومًا الأمين العام لحزب البعث، وسفير سورية لدى الأمم المتحدة، حمود الشوفي، ما ذكره له حافظ الأسد، في جلسة خاصة عام 1970؛ إذ قال له حينها: إن الناس لهم مطالب اقتصادية في الدرجة الأولى، يتطلعون إلى الحصول عليها، مثل: قطعة من الأرض، أو بيت، أو سيارة، أو ما شابه، وأنه يستطيع تلبية تلك المطالب “بشكل أو بآخر”، وأضاف: “هناك -فقط- مئة شخص أو مئتان على الأكثر” ممن “يعملون جديًا بالسياسة”،” أو يتخذون منها مهنة لهم، “وهؤلاء سيكونون ضده مهما فعل”، وخلُص إلى أن “سجن المزة -أصلًا- مبني من أجل هؤلاء”. أي: إن الأسد يرى أن الناس العاديين لم يُخلَقوا للسياسة، وهم أصغر من مجرد التفكير في العمل في السياسة، وإن حدث وعملوا فيها؛ فالقمع والسجن مصيرهم.
ومن خلال الملاحظة، يستطيع المتابع للشأن السوري أن يقول: إن هذا ما حصل بالفعل، فالشعب السوري في ظل حكم الأسد الاستبدادي عانى من غياب “الممارسة السياسية” بمعناها الحركي، وخاصة العمل المعارض، سواء ما يتعلق بتشكيل الأحزاب السياسية، أو التنظيمات الاجتماعية ذات البعد الحقوقي- السياسي كالنقابات وغيرها، وغابت عنه أية فرصة للعمل للوصول إلى السلطة بالطرق الديموقراطية الاعتيادية، كالتنافس السياسي والانتخابات، فنظام الأسد كان يغلق هذا المجال كليا، وبذلك يمكن القول: إن الشعب السوري حرم من حقه في المشاركة في عملية التنظيم السياسي والتنافس على السلطة وتداولها، وهو ما كان له أثر عميق في الثقافة السياسية للمجتمع السوري، بحيث أصبحت قائمة على النجاح الفردي في العمل، وبالتالي فشل التنظيمات الاجتماعية والسياسية لقلة تجربة الشعب السوري في هذا المجال. وعليه، يمكن القول إن عبارة “التصحر في الممارسة والعمل السياسي” تعتبر أكثر دقة.
رغم ذلك، فالشعب السوري في غالبيته العظمى يكثر الحديث في السياسة، ويكثر التعاطي في الشأن السياسي؛ فماذا نسمي ذلك؟ هنا لا بد من التنبيه إلى أن كل النظم السياسية الديكتاتورية منها والديموقراطية؛ تسعى إلى تنشئة المجتمع سياسيا بما يضمن زرع ثقافة سياسية لدى هذا المجتمع تعزز شرعية النظام السياسي، وتدعم خطه السياسي، والنظم الديكتاتورية تعتبر الأكثر نشاطا في هذا المجال. فصحيح أن نظام الأسد أغلق مجال العمل والممارسة السياسية أمام المجتمع، ولكنه نشط بشكل كبير في مجال التنشئة السياسية، فمنظمات طلائع البعث وشبيبة الثورة والفرق الحزبية، وغيرها، مازالت حاضرة وبقوة في مخيال السوريين، وعملية التنشئة التي خضع لها الشعب السوري أنتجت لديه ثقافة سياسية لا شعورية أصبحت محددا رئيسيا لطريقة التفكير السياسي، ومن أبرز ملامح هذه الثقافة السياسية:
- عدم الثقة بالآخر والتشكيك الدائم بكل ما يراه السوري، حتى ولو كانت حقائق مجردة.
- تغليب آليات التفكير التأمرية والظلامية على آليات التفكير العقلانية والنقدية.
- علو الأنا السياسي في مقاربة أي قضية سياسية عامة؛ فأي تشكيل سياسي لا يوجد لي مشاركة فيه يصبح تشكيلا سيئا، ولا يمثلني، ويجب هدمه، والعكس صحيح.
- الانسياق اللاإرادي نحو المواضع التي يستهدف النظام جر السوريين إليها بحجج مختلفة. مثال على ذلك، ترويج البعض أن قانون قيصر يستهدف الشعب السوري، مما يجعل الكثير ممن هم معارضون للنظام يرددون هذه العبارات دون وعي رغم أنها غير صحيحة، وتخدم النظام نفسه.
- تحقير مفهوم السياسة واعتبارها خداع وكذب، ولا يعمل بها إلا السيئون. وبذلك تصبح الصورة الطبيعية لكل من يعمل في المجال السياسي المعارض صورة مشوهة ينطبق عليها هذا المعيار.
وهناك ملامح أخرى يمكن ذكرها عند وصف بعض مقومات الثقافة السياسية السورية، ولكنها كلها تصب في نفس الاتجاه. وعليه، يمكن القول: إن ما قدمه النظام السوري على أنه تنشئة سياسية بما تحتويه من مقوماتها كالتوعية السياسية مثلا؛ لم تكن سوى وجبة مغشوشة؛ تشبه القصص والحكايات، وتشبه تربية الأطفال التقليدية، وتشبه أشياء كثيرة باستثناء شيء وحيد: هو السياسة!
في واقع الأمر، إن البرهان على أن الشعب السوري تعرض إلى الكثير من التضليل والعبث بوعيه السياسي لا يحتاج إلى الكثير من العناء، فالساحة السورية خلال سنوات الثورة أثبتت أننا لم نكن سابقا أكثر من ضحايا للتجهيل الممنهج. أو لنقل: إننا كنا ضحايا عملية غش متعمد، فالحيز المخصص للمعرفة السياسية لدينا لم يتم إفراغه فقط، بل ملئ بمادة فاسدة أخرى قدمت لنا على أنها معرفة سياسية.
من هنا يمكن القول: لو أن الشعب السوري لم يتعرض للتضليل والغش؛ لكانت قدرته على بناء وعي سياسي يلائم التغيرات والفرصة التي أتيحت له بعد العام 2011 أكبر. وللتوضيح، يمكن تشبيه الأمر بفلاح ينوي زراعة أرضه بمحصول جديد ومثمر، فيذهب إلى أرضه التي كان غائبا عنها وهو يحمل البذار ليبذرها، معتقدا أنها جاهزة للزراعة، فيتفاجأ أنه قبل ذلك عليه أن يقتلع الأعشاب الضارة والأشواك التي عشعشت في أرضه خلال فترة غيابه.
ما نتكلم به نحن السوريون ونتداوله ونمارسه على أنه سياسة، هو في الواقع شيء آخر: هو أشواك وأعشاب ضارة يجب التخلص منها أولا.