دعونا نصفق لمن يستحق
تقول القصة القصرة التي سمعتها في أكثر من مناسبة من أحد الأصدقاء: أقامت إحدى المنظمات دورة تدريبية للمعلمين والمدرسين المتطوعين في مدارس إحدى المناطق المحررة، وكان في البرنامج ثلاث حصص تدريبة، أو ثلاثة دروس تخص الدفاع المدني على اعتبار أننا في حالة حرب، ومن الطبيعي أن الذي سيقوم بتقديمها أحد رجال الدفاع المدني، وفي أول حصة تدريبية دخل هذا الرجل القاعة مرتبكا يعلو وجهه الخفرُ، فتلاميذه معلمون ومدرسون، وكلهم أعلى مرتبة علمية منه، لكنه سرعان ما تغلب على ارتباكه وبدأ يقدم المادة المقررة بكل انسياب وأريحية. للأمانة، كان ما سمعناه منه حديثا شيقا ومعلومات مهمة، خاصة وقد تخللها سرد لبعض مغامراته وأصدقائه في عمليات الإنقاذ وإطفاء الحرائق التي هي من صلب مهامهم. القفلة في القصة أنني بعد نهاية آخر تدريب لهذا الرجل؛ أحببت أن أدخل ثقافة جديدة لم نعتدها قبل الثورة: ثقافة الشكر لمن يستحق الشكر، والتصفيق لمن يستحق التصفيق، فصفقت للرجل ظانا أن جميع الحضور سوف يشاركني التصفيق، لكن الذي حدث؛ أن التحق بي ثلاثة أصدقاء فقط من أصل عشرين متدربا.
حتى الساعة، ورغم مضي تسع سنوات على هذه الحادثة مازال صديقي لم يصدر حكما على سلوك بقية المتدربين من أصدقائه، فهو متردد بين حكمين: هي آثار ثقافة القهر والاستبداد؛ حيث لا يُصفّق إلا للمرعبين. أو هي حالة من القرف من التصفيق بحد ذاته، لأنهم كانوا يفعلونه قسرا. وهو يذكرهم بعهد القهر والاستبداد.
منذ أيام باغتت أهلنا في الشمال السوري عاصفة ثلجية قطعت أوصال المدن، وجثمت الثلوج بكميات كبيرة على ظهور خيام النازحين؛ فترنحت بعض الخيام وهبطت أخرى ملقية ساكنيها في العراء. تعاطف البعض وهو جانب المدفأة، والبعض الآخر استمتع باللهو والتقاط الصور فوق الثلج؛ لا أحد يعلم إن كانوا متعاطفين مع المتضررين أم هم غير مكترثين بشيء. وبينما الأمر كذلك، انبرى رجال الدفاع المدني للقيام بواجبهم في التخفيف من حجم الضرر الذي جلبته العاصفة الثلجية، ولأن أعداد هؤلاء ومعداتهم غير كافية لمواجهة اعتباط الطبيعة التحقت بهم مجموعات من رجال الجيش الوطني للمساعدة في إنجاز تلك المهمة الشاقة، وتكاتف مع هؤلاء مجموعات كبيرة من شباب الفرق التطوعية الذين يمتلكون همما بارك الله فيها. كل هؤلاء وبعض الجنود المجهولين تحدوا البرد والأخطار من أجل إنقاذ المتضررين ونجدتهم.
يقول “مونتسكيو”: “عادات الشعب المستعبد جزء من عبوديته، وعادات الحر جزء من حريته”. وفي نفس السياق يمكن القول من دون تردد، وبثقة تامة: إن قيم الشعب الحر تختلف جذريا عن قيم الشعب المقهور أو المستعبد، وإذا فترضنا جدلا أن هؤلاء الذين هبوا لنجدة أهاليهم المتضررين من عواقب العاصفة الثلجية تجسدت لديهم قيمة النجدة: “نجدة الملهوف” كقيمة عليا؛ يمكننا القول إن إفرازات الثورة قد بدأت بالظهور، فهذه القيمة التي تشير إلى حب التعاون والعطاء تقف بالضد مما كان سائدا قبل الثورة، فمنظومة القيم التي سادت في عهد الاستبداد كلها تدفع نحو الحذر والأنانية والابتعاد عما قد يجلب الضرر، فقد كان لدينا الكثير من المقولات التي توحي بذلك؛ من مثل: (ألف أم تبكي ولا أمي تبكي، إذا شفت المركب غرقان اعطيه دفشه، وهكذا..). ولكن، هل يكفي هذا السلوك من مجموعات تعتبر صغيرة بالقياس إلى عدد الذين انحازوا لخيار الثورة لكي يصدر المرء حكما بهذا المستوى؛ أي: إن منظومة من القيم التي تعبر عن عصر الحرية بدأت بالظهور، ومنظومة أخرى كانت سائدة في عهد الاستبداد بدأت بالاضمحلال؟
في الواقع، إن هؤلاء الأبطال ليسوا قلة، فكل من يقول لهم شكرا، وكل من يصفق لهم يشاركهم نفس القيمة، بل ويضيف إليها قيمة أخرى؛ هي قيمة “الشكر”، والشكر ثقافة تنمّ عن الرقي والتربية الأصيلة وثقافة ردّ الجميل والاحترام والتقدير، فالشخص المشكور يشعر بقيمة ما يقدم، وهذا ما يدفعه لتقديم الأفضل في المرات القادمة، وذلك لأن كلمة وسلوك الشكر هما بمثابة حافز ودافع للأشخاص على اختلاف مراحلهم العمرية. إذن، فالشكر والتقدير لمن يستحق قيمة راقية تساعد في تثبيت قيمة راقية. وبالضد من ذلك، فالاستنكاف عن تقديم الشكر والعرفان لمن يُقدّم لنا الخدمة يعني أننا نُشجّعه على عدم تقديمها لنا أو لغيرنا مرّة أخرى. وبالتالي، وأد قيمة أو سلوك راق ولد من جديد.
للأسف، البعض يعتبر أن الشكر والثناء أحد شكال النفاق والتملق رغم أن الفرق بينهما كبير جدا، والبعض يعتبر أن الشكر والامتنان يحط من القدر، والبعض الآخر يرى أنه لا داعي لعبارات الشكر والثناء، لأن ما نقوم به هو من واجباتنا! والتي من المفترض أن نكون قد اعتدنا على القيام بها يوما بعد يوم، ولكن هذا ما أثبتت عكسه التجارب التي قام بها العلماء، بأن للشكر تأثيرا محفزا لطاقة الدماغ الإيجابية، مما يساعد الانسان على الإبداع والإنجاز.
من أجل قيم أسمى وأنبل، ومن أجل مجتمع أرقي؛ دعونا نصفق لمن يستحق.