القضاء على الفوضى مدخلا لاكتساب الشرعية
مع الإرهاصات الأولى للثورة السورية وقبل أن يتم الفرز النهائي خاض السوريون الكثير من النقاشات التي برزت فيها ميولهم بين مؤيد ومعارض، ونتيجة لضعف موقف المؤيدين؛ كان من الطبيعي أن تشوب مرافعاتهم الكثير من المغالطات والتناقضات الفاقعة. ومن الأمثلة عل ذلك أن أحد هؤلاء وهو مهندس؛ تحدث بلهجة واثقة وهادئة متقمصا شخصية المثقف الواعي، وذكر حادثة حصلت في أحد الأحياء، ملخصها: إن مشاجرة وقعت من أجل شيء تافه وانتهت بسقوط أربعة قتلى؛ ليصل لنتيجة مفادها: شعبنا يحتاج للشدة.
ينطوي المثال الذي ساقه ذلك الجهبذ على كمية هائلة من الغباء والتناقض، فالنظام السوري من خلال سياسته الممنهجة لم يكن شديدا سوى بالأمور التي لها علاقة بالسياسة، أو بكرسي الحكم إن صح التعبير، أما فيما يتعلق بالجرائم ومخالفة القانون والفساد فقد ترك الحبل على الغارب، حتى بدت سوريا وكأنها تحكم بقانون الغاب. وما انتشار الجرائم والاعتداءات والتنمر في أوساط المجتمع السوري إلا نتيجة لغياب القانون الرادع والتراخي المتعمد من قبل السلطة حيال تلك الفوضى العارمة. لقد كانت سوريا بلد الفوضى المدارة والمغذاة من قبل السلطة. إنها حرب الكل ضد الكل، لكنها تختلف عن تلك التي افترضها “توماس هوبر” متصورا حالة الإنسان قبل ظهور الدولة، إنما هي حرب الكل ضد الكل برعاية الدولة وإدارتها لإنتاج مجتمع مفكك عاجز عن تهديد السلطة، ولعل أسوأ ما في الأمر أن أغلب السوريين تعايشوا مع هذه الحالة واستساغوا الفوضى لدرجة انعكست في سلوكهم العفوي، بل وأصبحت ميزة لهم أينما حلوا وارتحلوا.
كنتيجة طبيعية لاعتياد الفوضى؛ هيمن الطابع الفوضوي على الشكل العام للثورة السورية، ورغم محاولة البعض تبرير تلك الفوضى أو العشوائية بأنها الحالة الطبيعية التي ترافق الثورات، إلا أن الفوضى التي رافقت الثورة السورية، خاصة في طورها المسلح، كانت عارمة أرعبت الصديق وطمأنت العدو، وبينما كان صوت المعركة مرتفعا، لم تكن قضايا التنظيم والإدارة تجد لها آذانا صاغية وسط ضجيج المعارك. أما وقد توقفت المعارك، وبدأت المناطق التي بقيت خارج سيطرة النظام تشهد بعض الاستقرار كان من الطبيعي أن تطفو على السطح قضايا كانت مؤجلة.
يعلم الجميع أن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري استقرت على ثلاث مناطق نفوذ، وبينما وجدت القوى المسيطرة على المنطقتين: الشمالية الغربية، والشمالية الشرقية أسلوبا للإدارة والتنظيم، بقيت المنطقة التي تتوسط هاتين المنطقتين تدار بأسلوب وطريقة غير معروفة وغير واضحة، لكنها بكل تأكيد فاشلة. فبعد أن توقفت المعارك وجدت الفصائل نفسها تسيطر على رقعة جغرافية محددة ويقطنها شعب، وهو ما يعني ضرورة وجود السلطة السياسية لتصبح هذه المنطقة أو الإقليم في حالة طبيعية. أي، أن يشعر السكان المحليون بأنهم مقيمون في دولة أو ما يشبه الدولة، وما لم تدركه النخب الثورية صاحبة النفوذ في هذه المنطقة أن العهود التي لم تكن الدولة موجودة فيها دون أن يوجد أحد يعترض على هذا الغياب قد أصبحت من التاريخ الغابر. ولعل خير من عبر عن وضع الإنسان في ظل غياب الدولة هو “جوزيف شتراير” بقوله: إن أفظع مصير يمكن معرفته في العالم الراهن، هو مصير من لا وطن له”، وأن شخصاً بدون عائلة، وبدون سكن ثابت، وبدون انتماء ديني يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية، لكنه بدون دولة ليس شيئاً، وليست له حقوق، ولا أمن، وعلى الأرض لا خلاص خارج إطار دولة منظمة.
من جهة أخرى، وجب التنويه أنه أينما ذكرت السلطة ذكرت الشرعية، بل تعتبر الشرعية الصفة الملازمة للسلطة كي تكون سلطة. فالدولة في نهاية الأمر هي كيان سياسي يمارس السلطة عن طريق استخدام القوة المشرعة، فرغم أن السلطة تعني في طبيعتها وجود علاقة بين آمر ومأمور، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تفرض إرادة طرف على طرف آخر، وأن ينصاع هذا الطرف الآخر للأوامر وحسب، عند ذلك تكون العلاقة علاقة يسودها الإجبار والإكراه. وتُستمد الشرعية أولا وأخير من رضى الجماهير، فالشرعية الثورية سريعة العطب والزوال؛ تبدأ بالتآكل والاضمحلال من اللحظة الأولى التي ينتقل فيها ضغط البندقية من الجبهة إلى الشارع، سواء نتيجة الاقتتال البيني، أو نتيجة الانتهاكات بحق المواطنين، وتزدار تآكلا عندما تلاحظ الجماهير ابتعاد الممارسة الفعلية عن الشعارات التي طُرحت مع انطلاقة الثورة.
لقد أثبتت تجربة السنوات المنصرمة أن النخب الثورية في هذه المنطقة لا تمتلك قدرات تنظيمية ولا ثقافية ولا سياسية تمكنها من تبيئة الفكر الثوري لتجعله واقعا ملموسا يمنحها الشرعية، ويوفر للمواطن قدرا مقبولا من الرضى. ورغم أن افتقار هذه النخب لهذه القدرات ليس عيبا، لكن المسؤولية تبقى ملقاة على عاتقها لأنها ظلت طوال الوقت مصممة على التصدي لتلك المهام بنفسها دونما محاولة فعلية للاستعانة بأصحاب الخبرات والمواهب.
في مجمل الأحوال؛ إذا كان النظام السوري قد عمم الفوضى لضرب تماسك المجتمع السوري وتحويله إلى مجتمع عاجز عن إحداث أي تغيير لاحق، فإن بناء السلطة والقضاء على الفوضى هما المدخلين المهمين لاكتساب الشرعية. وإذا أضفنا إليهما الدفاع عن الحريات وحمايتها فإن القائمين على شؤون هذه المنطقة يحق لهم الادعاء أنهم قدموا نموذجا يعتد به لسوريا المستقبل.