ترجمات

في أسدستان: باسمِ الأب والابن

Noura DOUKHI [1]

بمناسبة إعادة الانتخاب المنتظرة لبشار الأسد، الذي يستحوذ على السلطة منذ عام 2000، يرجع موقع    «L’Orient-Le Jour» الفرنسي إلى قصة (تاريخ) تقديس أشخاص عائلة “الأسد”، المؤسس منذ قرابة 50 عاما، عبر مقالة بعنوان (في أسدستان: باسمِ الأب والابن)[2]. يقدم لكم مركز نما للأبحاث المعاصرة ترجمة لهذه المقالة مع التعليق على بعض ما ورد فيها من نقاط.

(التعليق على الصورة): سوريون يتسوقون في سوق الحميدية المزين بصور رئيس النظام السوري بشار الأسد، التقطت الصورة في 22-5-2021 قبل أيام من الانتخابات الرئاسية.

في حي أبو رمانة الراقي، الواقع غربي دمشق، اللوحات التي تحمل صورة رئيس النظام بشار الأسد كثيرة جداً. في فيديو تم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي منذ بضعة أيام نرى عشرات اللوحات الملونة من أحجام مختلفة للرئيس، وخلفه العلم السوري، مع شعارات مختلفة مثل “نحن معك حتى النهاية –للموت-“. يقول علاء[3]،27 عاماً، الذي غادر مدينته الأصلية دير الزور (في شمال شرق سوريا) عام 2012 إلى بيروت “بحسب ما يعرضه الفيديو الذي شاهدته على شبكات التواصل الاجتماعي، هذه اللوحات هي أكبر بكثير من السابق”.

في الوقت الذي دُمر فيه اقتصاد البلاد بعد عشر سنوات من الحرب، يتساءل الكثيرون عن ثمن هذه الحملة في إطار انتخابات محسومة مسبقاً[4].

 واصلاً إلى السلطة في عام 2000 خلفاً لأبيه حافظ الأسد، الذي أدار البلاد بقبضة من حديد لثلاثة عقود ابتدأت بعد انقلابه عام 1970، بشار، الذي فاز بنتيجة انتخابات 2014 ب88⁒ من الأصوات، يتحضر من جديد لإعلانه منتصراً في هذه الانتخابات الوهمية المتكررة منذ 21 عاماً[5].

كما في كل انتخاب، تقديس شخصية رئيس الدولة مرئي بشكل خاص. ملصقات كبيرة لصوره، شعارات، أغاني وفيديوهات، حملات دعائية، كلها تؤكد بأن مسيرة أبيه “حافظ الأسد” مستمرة دائماً، بعد أكثر من خمسين سنة من استلامه للسلطة.

” بدأ تقديس الشخصية في زمان حكم حافظ الأسد، لكن هناك خلاف حول تحديد تاريخه بدقة. التواريخ المقترحة هي في السنوات ما بين بداية سبعينات وأواسط ثمانينات القرن الماضي”. كما تقول ليزا ويدن، أستاذة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو. تضيف” إذا كانت بعض المصادر الحكومية تؤكد بأن حافظ الأسد نفسه هو الذي أطلق ظاهرة (التقديس) بعد بضع سنوات من استلامه، فإن مصادر أخرى تؤكد أن أعضاء من الحكومة هم من أطلقوا ذلك، بهدف تحويل الأنظار عن حقائق الأوضاع في تلك الحقبة”.

الكاتب باتريك سيل[6]، في حديثه عن سيرة الأسد الذاتية، أكد أن أحمد اسكندر أحمد، وزير الإعلام، من عام 1974 إلى حين وفاته عام 1982، هو الذي ابتكر “تقديس الأسد”، لتحويل انتباه السوريين عن المعاناة الاقتصادية وأعمال العنف بين القوات الحكومية والإخوان المسلمين في سوريا، التي انتهت بمجزرة حماة 1982. توضح ليزا ويدن إضافةً إلى ذلك أنه “حمل ذلك الأمر أيضاً جواباً على الانخفاض الشديد في أسعار النفط والاجتياح الإسرائيلي للبنان في 4 حزيران 1982، الذي هدد بتقليص التأييد الداخلي للأسد وتهديد المركز الذي أعطاه لنفسه كقائد للشرق الأوسط”.

مكتبة الأسد…..بحيرة الأسد

بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، الذي كان يهدف إلى مطاردة منظمة التحرير الفلسطينية. تعرض الجيش السوري، الذي كان موجوداً في لبنان منذ 1976 إلى هجوم إسرائيلي في الشوف[7] وبيروت، مما أجبره على الانسحاب إلى البقاع. في نهاية صيف ذاك العام، بينما كان المقاتلون الفلسطينيون يغادرون بيروت، كان لموضوع إخلاء كل القوات الأجنبية من لبنان –الإسرائيلية والسورية- أهمية في سوريا وأضعف، في ذاك الوقت، حافظ الأسد.

على الصعيد المحلي، ظهرت معارضة لحافظ الأسد عام 1982 في حماة (مدينة في وسط سوريا)، بدأت عندما حاول 200 عضو من الإخوان المسلمين التظاهر ضد الأسد ومؤيديه في حزب البعث. حمل المتظاهرون الراية الإسلامية لإظهار استعدادهم لتقديم كل ما يلزم للاستمرار في تحقيق مطالبهم. قمعت قوات الأسد المعارضين لها ونتج عن ذلك بين 10 آلاف إلى 40 ألف قتيل بحسب التقديرات.

وهكذا زاد تفعيل ظاهرة (تقديس شخصية الرئيس) والمبالغة فيها، وتم تصويره كمنقذ للبلاد من الأزمات. تقول ليزا ويدن بهذا الصدد “ظهر تقديس الأسد بالتدريج كعنصر أساسي للحياة السياسية في سوريا المعاصرة، وتطور مع مرور الزمن، حتى في حكم بشار استمرت هذه الظاهرة بالتزايد”.

غزا بشار الأسد بسرعة كل جوانب المجتمع السوري، حيث ظهر على شاشات التلفزيون التي تكلمت بدقة عن أعماله ونشاطاته مهما كانت بسيطة. تم الحديث عن ذلك أيضاً في مختلف الصحف الرسمية. كان ذلك على خطى أبيه حافظ الذي ما زال موجوداً في كل الأماكن العامة. كتب الصحفي دانييل لوغاك، مؤلف كتاب (سوريا: الجنرال الأسد): “هناك مكتبة الأسد في دمشق، ساحة الأمويين. بحيرة الأسد في منبع سد الثورة. مئات ساحات تحمل اسم الأسد. آلاف الشوارع كذلك تحمل اسمه. ملايين الطوابع (ذات القيمة المالية) التي تحمل صورته. وحتى هناك قطع نقدية تحمل صورته. الأمر الذي أثار استغراباً لأنه لا يرتبط بتراث سوري ولا تراث عربي”.

صدام حسين هو القائد العربي الوحيد الذي صنع تقديساً للرئيس يمكن مقارنته مع تقديس الأسد في سوريا، وكان أيضاً على غرار النموذج السوفييتي. الشمولية على طريقة ستالين هي الطريقة التي أدار بها بشار وأبوه حكم البلاد وقاموا بالأفعال التي يتباهون بها.

 تضيف ليزا ويدن “التأكيدات الصريحة والخفية للتقديس لم تكن محدودة بل كانت مؤثرة، أنتجت سياسة نفاق عام يتصرف فيه المواطنون كما لو أنهم يقدسون الزعيم. تم توظيف التقديس كآلة للسيطرة الاجتماعية لفرض الطاعة، تحفيز المشاركة، إنتاج خطوط موجهة للخطابات والشؤون العامة، وعزل السوريين عن بعضهم البعض”.

من هو قائدك إلى الأبد؟

في المدارس، تقديس الأسد مرئي بوضوح، كما يخبرنا محمد نصر، الناشط السوري لحقوق الإنسان، اللاجئ إلى ألمانيا منذ عام 2015 “كان حافظ في كل مكان، على الفولار الذي نرتديه، على حائط مدرستنا، على مقاعد الدراسة والطاولات، في باحة الاستراحة، وفي الممرات”.

يضيف الناشط “كنا معتادين أن نبدأ يومنا بذكر اسمه: (قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد). رددناها كل يوم في المدرسة خلال 12 سنة. كنا نحفظ نماذج من خطاباته عن ظهر قلب أكثر من واجباتنا المدرسية”. يتابع قائلاً “في كل صباح يأخذ أحد المعلمين الميكروفون ويسألنا: من قائدكم إلى الأبد؟ كان كل التلاميذ يجيبون بصوت واحد: الأمين حافظ الأسد، ثم في وقت لاحق، بشار الأسد”.

من جهتها تتذكر إسراء[8]، الفتاة ذات الثلاثين عاماً، اللاجئة من حمص إلى تركيا “كان هناك كتاب عن تمجيد حافظ الأسد والحروب التي خاضها، ومن ثم بشار الأسد. لم يكن المعلمون يقولون كلمة سيئة عن الرئيس، لذا كان هو قدوتنا حسبما لقنوه لنا”.

كان الخوف يتسلل بسرعة إلى نفوس طلاب المدارس. كما يوضح مازن، 65 عاماً، الذي غادر مدينة حمص في عام 1985 واستقر في فرنسا “كنا نشعر بأن نظاماً ديكتاتورياً عسكرياً يدير البلاد. كنّا نحضر دروساً يعطيها عسكريون، نتعلم خلالها بشكل خاص دروساً عن حزب البعث”[9]. ترافق تقديس شخصية الرئيس مع إلغاء جوانب كثيرة من الحرية.

يتابع مازن “لم يكن لنا حق الكلام بسوء عن النظام. كان الخوف في كل مكان، وحتى بين الطلاب”. يروي مازن بأن “الحيطان لها آذان” أصبحت عبارة يرددها الكثير من السوريين.

رغم القبضة الأمنية للنظام، يتذكر مازن لحظات نادرة كان يسخر فيها من الأوضاع مع بضعة أصدقاء “في كل صباح قبل الدخول إلى الصف، كان علينا أن نردد النشيد الوطني السوري، ومنذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، ظهر شعار جديد للبلاد كنا نردده (وحدة- حرية- اشتراكية). مع بضعة أصدقاء كنا نقف في آخر الصف ونسخر بصوت منخفض عن طريق استبدال الكلمات بأسماء الحلويات السورية المفضلة لدينا (برازق- معمول- غريبة).

الأسد المقدس

قبضة النظام في الجامعة محكمة أكثر، كما يوضح مازن “الكل يجب أن يكون مؤيداً للنظام: الطلاب، الإداريون، والأساتذة”.

تضيف إسراء “كل الطلاب يجب أن ينتسبوا إلى حزب البعث. وإذا لم يفعلوا ذلك سيكون مستحيلاً قبولهم في وظيفة عامة بعد حصولهم على الشهادة”.

من أجل السيطرة على الجامعات، عيّن حافظ الأسد شقيقه رفعت على رأس مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية لحزب البعث، الأمر الذي جعل من رفعت سيد الجامعات السورية. وهكذا دخلت المخابرات إلى الحرم الجامعي وطردت منه كل شخص مشكوك بانتمائه أو تأييده للنظام.

في عام 1984، حاول رفعت استلام السلطة، مستفيداً من تردي الحالة الصحية لشقيقه، الذي كان تحت العناية المشددة في المشفى منذ تشرين الثاني 1983 بسبب أزمة قلبية. وهكذا تغيرت طبيعة تقديس شخصية الرئيس حافظ (عند رفعت).

استمر ظهور الصور المقدسة للأسد خلال مرضه ومحاولة أخيه رفعت استلام السلطة عام 1984، معززةً رمزية القائد (الذي لا يموت)، بينما كان قريباً من الموت صحياً.

خلال الاستفتاء الذي جرى في العام التالي، ظهر الأسد كشخصية مقدسة ستحكم (إلى الأبد). كما توضح ليزا ويدن “امتد التقديس إلى مسيرات تأييد شعبية، نصب تذكارية (تماثيل)، قسم الولاء الموقع بالدم، مع استعمال المصطلح الإسلامي المعروف (البيعة)”.

عندما تم ظهور حافظ الأسد كشخص مقدس، وصل النظام إلى الحدود التي يريدها، ولم يكن هناك داع لتغيير مصطلحات تقديس الأسد بعد عام 1985.

بينما كان حافظ الأسد قد هيأ ابنه الأكبر باسل لخلافته، وأخضعه لدورات عسكرية، مات باسل في حادث سيارة عام 1994. كان بشار وقتها طالب طب عيون في لندن، وتم استدعاؤه مباشرة للعودة إلى سوريا واتباع دورة في الأكاديمية العسكرية في حمص.

بعد موت باسل انتشرت بكثرة الصور التي تجمع الأب ومعه على اليمين ابنه الأكبر (باسل) وعلى الشمال ابنه الثاني (بشار). يقول مازن “خلال سنة كان ممنوعاً تنظيم الحفلات، حتى على نطاق ضيق. كان على كل الناس أن يبكوا بسبب موت باسل الأسد”.

بالمقارنة مع أبيه

مع وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، كان عمره 34 سنة، اعتقدت سوريا أنها ستفتح صفحة جديدة من تاريخها. ظهر بشار وزوجته بصورة عائلة حضارية مثقفة ومنفتحة على العالم. تقول ليزا ويدن “الصور الأولى للعائلة الحاكمة الجديدة كان لها مفعول السحر. بدا فيها، بالنسبة لي ولكثيرين آخرين، تحول كبير للحكم في سوريا”.

إذا كان بشار الأسد قد وعد بتطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي والتحرر السياسي، فإن هذه الوعود تلاشت بسرعة. في أيلول عام 2000 نادى مئات الناشطين والمفكرين ضمن ما سمي (ربيع دمشق) بإصلاحات عديدة من ضمنها إلغاء حالة الطوارئ وتفعيل التعددية السياسية. في صيف عام 2001 قمع بشار هذا التحرك. القمع الجماعي للمظاهرات الشعبية التي بدأت بعد ذلك بعشر سنوات أظهر خطأ رأي أولئك الذين رأوا في بشار الأسد رجلاً أكثر اعتدالاً من أبيه.

يستمر السوريون، حتى المؤيدون للأسد، في المقارنة بين بشار وأبيه، ويعتقدون بأن الأب كان أكثر ذكاءً، ولو كان موجوداً لتعامل مع الأحداث الحالية بشكل أفضل. يوضح محمد نصر ذلك بقوله “يتمنى المؤيدون لو كان حافظ الأسد حياً لينقذ البلاد. أعتقد أن هذه المقارنة تخيف بشار وتجعله أكثر وحشية وتصميماً على التمسك بالسلطة وقمع الشعب”.

في أثناء المظاهرات ضد النظام هاجم المتظاهرون رموز تقديس نظام الأسد، وقاموا بشكل خاص بتدمير تماثيل الأب. ففي آذار 2011 تمكن عدة متظاهرين في جنوب درعا من الوصول إلى تمثال حافظ قبل أن يتم استهدافهم برصاص قوات النظام. في اليوم التالي اعتصم حوالي 300 شاب حول ما تبقى من التمثال رافعين شعارات مناهضة للنظام.

في عام 2019 بعد استعادة قوات النظام مدينة درعا من أيدي قوات المعارضة، أعادت وضع تمثال لحافظ الأسد رغم معارضة عشرات الأشخاص المتجمعين رفضاً لذلك. تقول ليزا ويدن حول ذلك “تماثيل حافظ الأسد لا تعبر فقط عن وحشية وقمع النظام، بل تشير أيضاً إلى تطلعات بشار الأسد، الذي يسعى دائماً إلى أن يصل تقديسه إلى التقديس الذي كان لأبيه”.

رغم ذلك انتشرت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي صورة تظهر علم الثورة مرفوعاً في ساحة المسجد العمري، مهد المظاهرات في درعا، في أعلى لافتة كُتب عليها “لا مستقبل للسوريين مع القاتل”.[10]


[1] كاتبة وباحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط.

[2] المقالة الأساسية باللغة الفرنسية متوافرة عبر الرابط التالي: https://www.lorientlejour.com/article/1263188/en-assadistan-au-nom-du-pere-et-du-fils.html

[3] تذكر كاتبة المقال أن هذا ليس الاسم الحقيقي الذي تم إخفاؤه بناءً على طلب الشخص المعني.

[4] حول هذا الموضوع يمكنكم متابعة المقالة المترجمة: “سوريا: التنافس على انتخابات رئاسية محسومة مسبقاً”. والتي سبق لمركز نما للأبحاث المعاصرة القيام بنشرها عبر الرابط التالي: https://nmaresearch.com/?p=2624

[5] كما نعلم نجح بشار الأسد بهذه المهزلة الانتخابية بعد أيام من كتابة هذه المقالة وبنسبة أكثر من 95⁒من أصوات الناخبين.

[6] باتريك سيل (1930-2014): صحفي وكاتب بريطاني، متخصص في الشأن السوري، له عدة مؤلفات منها: الصراع في سوريا 1965، أسد سوريا: الصراع في الشرق الأوسط 1988.

[7] الشوف هو أحد أقضية محافظة جبل لبنان الستة، عاصمته بيت الدين، تبلغ مساحته 495 كيلو متر مربع.

[8] تم استخدام اسم وهمي للشخص وليس اسمه الحقيقي بناءً على طلبه.

[9] المقصود بذلك دروس مادة “التربية الوطنية” التي كانت تبدأ منذ المرحلة الابتدائية، ثم تتحول إلى “التربية القومية الاجتماعية” وتستمر حتى نهاية المرحلة الثانوية، حيث كانت مناهجها تركز على مبادئ وأفكار حزب البعث وتقديس رئيس البلاد والاستشهاد بأقواله.

[10] أرادت الكاتبة من ذكر هذه الحادثة في نهاية مقالتها التأكيد على استمرار الثورة في سوريا، حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، ورغم قبضته الأمنية الشديدة وتقديس المؤيدين لرئيسهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى