مقالات

مأزق قيصر والبحث عن صفقة

يبدو أن البدائل أصبحت محدودة جدا أمام النظام السوري وداعميه، وهم الآن في وضع لا يحسدون عليه، فقانون قيصر القاسي جدا يمكنه أن يرهق دولة في حالة ازدهار، فما بالك بدولة حولها النظام الحاكم من خلال تعنته ووحشيته إلى بلد مدمر بشكل شبه كامل. ولكن، ورغم ذلك، مازال النظام السوري متمسكا بالحكم وتراوده الكثير من أحلام اليقظة. فبعد أن منع قسرا من اجتياح إدلب؛ يبدو أن النظام السوري دخل في نفق مظلم، وأغلب الظن أنه كان يعول على تلك العملية كثيرا بحيث يضع العالم أمام أمر واقع لن يستطيع أمامه سوى مفاوضته والرضوخ لطلباته مقابل الكف عن تصدير ملايين النازحين. كما يبدو أنه قد فوجئ بالموقف التركي. خاصة وأنه سبق له أن مارس سياسة الهروب إلى الأمام وحصل على بعض النقاط التي جعلته ينطلق إلى تلك المغامرة بحساب واحد هو النصر.

لا شك أن أفكارا كثيرة قد طرحت ونوقشت بشكل مستفيض، لكن شدة الضعف يصاحبها قلة الحيلة، ويبدو أن آخر ما تفتقت به قرائحهم؛ هو محاولة إنجاز صفقة على شاكلة ما حصل بعيد ضرب الغوطة بالأسلحة الكيميائية المحرمة دوليا، وما التصريحات الروسية عن استعداد روسيا للتفاوض مع الولايات المتحدة بالشأن السوري إلا دليل على ذلك. ولكن، في المرة الماضية فاوض الروس على تسليم السلاح الكيميائي، فعلى ماذا يفاوضون هذه المرة؟ وهل هذه تشبه تلك؟

     في البداية يجب التسليم أن النظام السوري في سبيل أن يبقى في الحكم لديه الاستعداد للتفاوض على كل شيء. خصوصا في حال وجود ضمانات حقيقية. ولكنه – أغلب الظن – لا يمتلك، أو ليست لديه المقدرة على التفاوض على أهم ما يمكن أن يشكل إغراء للجانب الأمريكي، ألا وهو إنهاء الوجود الإيراني في سوريا. وإذا استثنينا هذه الفكرة من جدول المساومات، ما لذي يبقى في جعبة النظام ليساوم عليه؟ في الحقيقة، لم نتمكن من العثور على شيء مهم، سوى الموافقة على تفعيل المسار السياسي، والذي هو بالنسبة  للنظام الخيار الأسوأ، فبالنسبة له،  التفاوض على إخراج

روسيا وإيران أهون ألف مرة من القبول بتفعيل المسار السياسي، والذي يمكن أن يتضمن مبدئيا: تفعيل أعمال اللجنة الدستورية، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، أو القبول بوقف لإطلاق النار يشمل كافة الأراضي السورية، وهذا مطلب أمريكي كما هو معروف. وربما بعض الإجراءات الأخرى التي توحي بأنه جاد في هذا الطرح، لكن، وبكل تأكيد، سيكون هذا الطرح مشروطا بتخفيف العقوبات الأمريكية، وإن كان بشكل مؤقت، فاللعب على عامل الزمن، كان وما زال جوهر التخطيط السياسي لدى النظام. بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن يكون لدى النظام استعداد لإظهار المرونة حيال بعض الإملاءات الأمريكية القديمة المتجددة والتي تخص سلوك النظام وتوجهاته.هذا بشأن التوقعات بخصوص الصفقة، ولكن، لو افترضنا جدلا أن هذه التوقعات دقيقة؛ فهل تقبل الولايات المتحدة بمثل هكذا صفقة؟ للإجابة على مثل هذا التساؤل لا بد من إجراء مقارنة مبسطة بين الحالتين: الحالة ما بعد استخدام السلاح الكيميائي، والحالة الآن. فمن ناحية أولى، كان تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بأن استعمال النظام السوري للأسلحة الكيميائية خط أحمر تصريحا لا يتناسب مع توجهاته المناهضة للأنشطة العسكرية الأمريكية حول العالم، وقد لاحظ الجميع الطريقة التي شاركت بها الولايات المتحدة في الحرب الليبية. وفي واقع الأمر، يعتقد أن قراءة النظام السوري للسياسة الأمريكية وقتها (سياسة النأي بالنفس)، هي التي شجعته على استخدام السلاح الكيميائي. إذن، عندما قال أوباما إنه سوف يوجه ضربات عسكرية للنظام السوري كان محرجا وكان مضطرا للتصرف بعكس توجهاته، وبعكس الخط السياسي الذي رسمه لنفسه ولإدارته. من هنا كان القبول بالصفقة مخرجا للرئيس الأمريكي يحفظ به ماء وجهه.

من جهة أخرى يجب التنويه إلى أن سياسة الانكفاء التي اتبعها الرئيس أوباما لم تكن مجرد وجهة نظر جاء بها، وإنما كانت تعبيرا عن توجهات الرأي العام الأمريكي والنخب السياسية هناك، فبعد حربي العراق وأفغانستان  هكذا أصبحت وجهة  النظر الأمريكية بشكل عام، فأوباما حتى لو قرر خوض الحرب فهو لن يستطيع الحصول على التأييد اللازم. ومن هنا يلاحظ الجميع أن سياسة النأي بالنفس مازالت مستمرة حتى في عهد الرئيس ترامب. لكن النأي بالنفس بالنسبة للولايات المتحدة لا يعني بأي حال من الأحوال عدم التدخل في الصراعات الدولية؛ فهذا يعني نهايتها. لكن النأي المقصود بالتحديد؛ هو عدم التدخل عسكريا في النزاعات التي تحصل هنا وهناك، ويعتبر أسلوب الضغط وفرض العقوبات هو الأسلوب الأمثل لكي تحافظ الولايات المتحدة على وجودها ومركزها في قمة النظام الدولي، وهو أسلوب أقل تكلفة وأقل خطورة، لذلك يلقى التأييد من قبل النخب السياسية في الولايات المتحدة.

وأخيرا، بينما كان أوباما يتخوف من معارضة من قبل الكونجرس، يجد ترامب نفسه مدفوعا من قبل الكونجرس لتنفيذ قانون أمريكي هو قانون قيصر، فالمعارضة هنا، سوف تحصل فيما لو تهاون الرئيس في تطبيق القانون. إذن، هذه ليست كتلك، وأغلب الترجيحات تقول: إن النظام لن ينجو هذه المرة، وإن كانت الإدارة الأمريكية لا ترفض الحوار، أو التفاوض من حيث المبدأ. وأغلب الظن أن المفاوضات في نهايتها، ستتحول إلى مفاوضات لضمان الخروج الآمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى