قراءة في بيان استوكهولم – إشكالية الهوية الوطنية
تجاهل بيان ما سمي بـ “مؤتمر القوى والشخصيات الديمقراطية” التي التقت في العاصمة السويدية ستوكهولم، وهو الثالث من نوعه الذي تعقده مسد مع عدد من الشخصيات السورية برعاية الخارجية السويدية ومركز “أولف بالما” للسلام والديمقراطية، تجاهل الإشارة إلى أي من المحاور التي طرحتها لجنته التحضيرية، وهي المتعلقة بالوضع الراهن والتعافي المبكر ودور القطاع الخاص في الحل السياسي واللامركزية كمدخل لذلك الحل، وهي نقاط في غاية الأهمية، بينما علق في فخ إشكالية الهوية الوطنية، حيث قيل إن المؤتمرون توصلوا إلى توافقات هامة حولها؛
فقد آن الأوان للسوريين، وفق البيان، أن يدخلوا عهداً جديداً من “السلام والحرية والحداثة والازدهار، ويخرجوا من أزمنة الهويات المتناحرة والعيش دائماً على أعتاب الحروب”، وكأن السوريين لم يتوقفوا عبر تاريخهم عن الحروب الأهلية بسبب هوياتهم المتناحرة، وأن الوضع الراهن هو حرب أهلية بين المكونات، يجهد المؤتمرون عقولهم في البحث عن سبل التعافي المبكر منها، من خلال حسمهم لإشكالية الهوية الوطنية، وكأنه لا يوجد أكثر من 13 مليون سوري من أبناء جلدتهم قد أمعن نظام الأسد في قتلهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم وبيوتهم وحاضرهم ومستقبلهم، وكأن جل هؤلاء، إن لم نقل كلهم، لا ينتمون لمكون سوري، وله حقوق كباقي المكونات وفق تصنيفاتهم للهويات الفرعية والتي زادوا عليها تصنيفاً مستجداً هو الهويات “المحلية”؛ فتلك “الهوية السورية الحقيقية”، تبنى على تأكيد الاعتراف “بكامل حقوق الهويات المحلية”؛ وكأنه لا يكفيهم تجزئة الهوية الوطنية إلى هويات فرعية “قومية وإثنية ودينية ومذهبية وطائفية”، بل لا بد من الحفاظ على الهويات المناطقية الإقليمية والمحافظاتية والمدينية والريفية والبلدياتية والقروية؛ والمفارقة الكبرى في طرحهم ذلك، هي عندما يعرفون “جوهر” تلك الهوية الوطنية السورية، “فالمواطنة الحرة المتساوية” مع “حقوق المكونات” هو ما يشكل جوهر هذه الهوية!، فكيف يستقيم طرح مفهوم المواطنة مع تكريس فكرة حقوق المكونات؟
المواطنة لا يمكن إلا أن تكون حرة ومتساوية، وهي لا يمكن أن تكون من دون ديمقراطية وسيادة قانون، وإلا فلا تسمى مواطنة، وهي تنطلق من المذهب الليبرالي القائم على حقوق الأفراد بوصفهم أفراد، لا على حقوق الجماعات والمكونات، فالأفراد أحرار بمعتقداتهم وانتماءاتهم الثقافية والقومية والدينية في ظل سيادة القانون ومبادئ الدستور، وعند ذلك لا حاجة للوقوع في التناقض من خلال الحديث عن حقوق المكونات لأنها ستكون مضمونة بنفس درجة ضمان حقوق الأفراد.
أما إذا انطلقنا في تعريف الهوية الوطنية، كما فعلوا، من منطق المكونات القومية والدينية والطائفية والمذهبية، وفوقها المحلية، فهنا يحق للمكون الأكثري أن يطالب بنفس تلك الحقوق ومن دون انتقاص وعلى قاعدة النسبية، وذلك المنطلق هو المدخل للتفكك والانفصال والتقسيم والحفاظ على تناحر الهويات التي أراد المؤتمرون الخروج منها ومن حروبهم الأهلية الدونكيشوتية المتوهمة.
وفي الوقت الذي ينشغل به أولئك المؤتمرون في مناقشة موضوع الهوية الوطنية وحقوق المكونات كمدخل لإنهاء مأساة الشعب السوري وانتشاله من حروبه الأهلية التي لا تنتهي والتي آن الأوان لإخراجه منها، يتجاهلون، وهم يدرسون بترف فكري ممجوج في فندقهم الوثير، مأساة وآلام ومعاناة أبناء الشعب السوري في المعتقلات وأماكن النزوح واللجوء، هذا إن كانوا يستشعرونها أساساً، إذ لا غرابة في الانتهازيين والمتسلقين وتجار الحرب والسياسة الجدد أن تعمى أبصارهم وبصائرهم، كما لا غرابة في أصحاب العقد الأقلوية أن يكونوا الأكثر إصراراً على مسار اللجنة الدستورية‘ لتمرير دستور أمر واقع قائم على المحاصصات المكوناتية والجغرافية، فهؤلاء الوطنيون جداً والديمقراطيون جداً، لا ينظرون للوطن كجغرافيا إلا من خلال منظورهم المحلياتي وعلى مقاس مصالحهم وسلطاتهم المؤقتة التي يريدون تأبيدها، ولا إلى الهوية الوطنية إلا من منظورهم الأقلوي، ولا إلى حقوق المكونات إلا بمقدار طمس حقوق الأكثرية، ولا إلى الديمقراطية إلا بوصفها ديمقراطية توافقية قائمة على المحاصصات على الطريقة اللبنانية.
فإذا أراد أولئك وأمثالهم أن يعالجوا إشكالية الهوية الوطنية الجامعة، فما عليهم إلا أن يعالجوا أنفسهم أولاً من عقدهم الأقلوية، ويقلعوا عن النفاق الوطني، بأن يكونوا صادقين في طرح فكرة الديمقراطية والمواطنة بعيداً عن الحسابات العددية والمحاصصات بأنواعها، كما عليهم ألا يتنكروا لحقائق التاريخ والجغرافيا فهي تفقأ العين، وحتى نبراسهم في العقد الأقلوية، نظام الأسد، يتحدث عن العروبة أكثر من القوميين ويتحدث عن الإسلام أكثر الإسلاميين، بوصفهما سمتان أساسيتان من سمات الهوية الوطنية، لأنه يدرك حقائق التاريخ والجغرافيا ويدرك أنه لا يستطيع القفز فوقها أو تجاهلها كما يفعلون.
يبدو أن أدعياء الديمقراطية من الانفصاليين، وأولئك المصابين بعقدة نفسية اجتماعية اسمها الأقليات والأكثرية، قد نجحوا في تمرير تلك الخلطة الهوياتية في البيان لتكون حجة عليهم لا لهم، وذلك من أجل الاحتفاظ بطموحاتهم ومكتسباتهم السلطوية التي حققوها بالانتهاز الرخيص لفرصة تحققت لهم بسبب توحش نظام إجرامي يحمل نفس العقد، فوجدوا أنه من المناسب إدخال مصطلح الهويات المحلية، كورقة احتياطية في ضوء عدمية مشروعهم الانفصالي وفكرهم الشمولي العنصري واختبائهم خلف شعارات الديمقراطية، فكيف لهؤلاء أن يعطوا المحاضرات في الديمقراطية والمواطنة والهوية الوطنية الجامعة، وفاقد الشيء لا يعطيه.