عندما يتحول الديكتاتور إلى صنم.. الأسد نموذجا
مقدمة:
الديكتاتور يعي دوما أنه حاكم بلا شرعية، ويخشى دائما أن ينتزع السلطة منه ديكتاتور آخر، أو أن يثور عليه شعبه بسبب ظلمه وفساده، ولذا يلجأ إلى أساليب مختلفة لترسيخ سلطته، والبطش هو الأسلوب السائد لدى كل الطغاة لتثبيت طغيانهم، ولكن الطغاة يدركون جيدا أنهم لا يستطيعون الاعتماد على البطش وحده، فالبطش يرغم المحكومين على الخضوع عنوة وكرها للحاكم، وهذا وحده لا يكفي، والخضوع الذي ينتجه غير مضمون، ولابد بالتالي من قوة أخرى مختلفة تجعل المحكومين يقبلون بشكل طوعي بسلطة هذا الحاكم، ولذا ينبغي التأثير على عقول هؤلاء المحكومين لجعلهم يرضون بحاكمهم رغم كل ما يرتكبه بحقهم من شرور، والخيار المناسب في مثل هذه الحالة هو إنشاء عقيدة، عقيدة من النوع الغيبي يتم بواسطتها السيطرة على عقول هؤلاء المحكومين، ويكون هذا الحاكم هو أساسها، وهذا ما يقتضي وضع هذا الحاكم في موضع القداسة، وبقدر ما تكون هذه القداسة أكبر فهي تضمن سلطة هذا الحاكم أكثر.
هذا ما كان يعيه ويفعله الأسد الأب في سورية، الذي كان يعلم تماما ضرورة وجود غطاء مقدس له يخفي حقيقته كطاغية غاصب للسلطة، وهذا ما ورثه الأسد الابن عن أبيه.
وهذا ما سيدور الحديث عنه في هذا المقال.
1- لماذا وكيف يتحول الطاغية إلى صنم؟
تعود ظاهرة تأليه الزعماء إلى جذور قديمة في التاريخ، وهي ترتبط بشكل جدلي بعاملين أساسيين، أولهما هو المحكومين، وثانيهما هو الحاكمين.
بالنسبة للمحكومين في تلك اﻵونة، لم تكن لديهم القدرة على حكم أنفسهم بأنفسهم كشعوب، ولذلك كانوا دائما ينتظرون الزعيم المخلّص الذي يحكمهم ويقودهم ويحل مشاكلهم، ومثل هذا المخلص بنظرهم كان يجب أن يكون شخصا غير عادي، وهو يجب أن يتمتع بقدرات وصفات لا تتواجد لدى عموم الناس، ولذا كان الزعماء غالبا ما يُنظر إليهم أنهم مؤيدون من قبل اﻵلهة أو يحكمون بحق إلهي أو هم أنفسهم أبناء آلهة أو حتى آلهة!
هذا اﻷمر غدا عاملا جوهريا يستغله الحكام لترسيخ وتوطيد سلطانهم وتسلطهم، وكان هؤلاء الحكام يركزون دوما على إبراز وإظهار أنفسهم بأنهم ذوو طبيعة غير عادية، ولديهم صفات فوق بشرية، وكانوا إما يدعون الصلة باﻵلهة أو النسب إليها أو حتى الانتماء إلى طبيعتها، وهم كانوا يدركون أن شعوبهم لن تطيعهم إذا رأت فيهم بشرا عاديين، وأن الطاعة والرضوخ لهم ستتوفران بقدر ما يتم غرس وترسيخ فكرة تميز ورفعة طبيعتهم وانتمائهم إلى عوالم تعلو على عالم البشر في أذهان شعوبهم، وبذلك يتمكنون من السيطرة على شعوبهم والتحكم بهما والتسلط عليها؛ وعن ذلك يقول د. إمام عبد الفتاح إمام: (إذا كان الحكام بشرا كالمحكومين، فكيف تكون إراداتهم حرة تحدد نفسها بنفسها، بينما تكون إرادات المحكومين خاضعة لهم تتحدد وفق مشيئتهم؟… أول إجابة طرأت على ذهن الإنسان في هذه العصور الموغلة في القدم هي لابد أن يكون الحكام من طبيعة غير الطبيعة البشرية، هكذا تصور القدماء الحاكم من طبيعة إلهية: فهو إله أو ابن إله، أو يحكم بتفويض مباشر أو غير مباشر من الله[1].
هذه الظاهرة ما تزال مستمرة حتى يومنا الراهن في مناطق عديدة من عالمنا المعاصر، وإن اختلفت في جوانب كثيرة عن ماضيها, وفي الوقت الذي تمكنت فيه شعوب عديدة من التخلص من هذا العبء، والتطور إلى درجة أصبحت فيه قادرة على حكم نفسها بنفسها عبر أنظمة ديمقراطية، فسواها من الشعوب مايزال غير قادر بعد على تحقيق ديمقراطيته، وما تزال تحكمه طغم ديكتاتورية، يتربع على رأس هرمية كل منها طاغية يتسلط على شعبه بنفس أسلوب قدماء الطغاة، ورغم أنه لم يعد من المقبول اليوم من هؤلاء الطغاة أن يدعوا الصلة بالله أو النسب أو الانتماء إلى اﻷلوهة بالمعنى المباشر الذي كان يفعله الطغاة القدماء، إلا أن الطغاة المعاصرين مايزالون كسلفهم يعظمون أنفسهم إلى حدود فوق بشرية، ويرفعون أنفسهم إلى مستوى القداسة، ويتحولون إلى شركاء لله بطريق غير معلنة، وينطبق عليهم قول عبد الرحمن الكواكبي:(إنه ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله)[2].
شهد القرن العشرين العديد من أمثال هؤلاء الحكام، ومنهم مثلا هتلر وموسوليني وستالين وماوتسي تونغ، وكان حظ المنطقة العربية منهم وافرا، فظهر فيها معمر القذافي وحافظ الأسد وصدام حسين وسواهم، ولم يختف مثل هؤلاء الحكام قطعا في القرن الحادي والعشرين، وما يزال العديد منهم موجودين في العالم، ولاسيما في منطقتنا العربية، ومن أكثرهم شراسة الأسد ونظامه في سوريا.
2- نماذج من مظاهر وشعارات تقديس الأسد:
منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة في سوريا بالقوة العنيفة، دأب هو وأعوانه على تصويره بمظهر القائد التاريخي المخلـّص، والبطل الوطني والقومي، وبعد أن سيطر حافظ الأسد وزمرته على البلاد، وحولوا الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة والمنظمات المدنية والحرفية إلى أدوات لتثبيت سلطتهم، راحت الدعاية الأسدية المكثفة تسعى لاختزال سورية في شخص الأسد، وتصويرها وكأن وجودها ومصيرها وقيمتها ترتبط حصريا بحافظ الأسد، فهو “الأمين”، وهو “قائدنا إلى الأبد”، وهو “سيد الوطن”، وهو “بطل التصحيح والتحرير”، و“القائد المفدى”، و“عظيم الأمة”، و“الأب القائد”، و“الرفيق المناضل”، وبعد وفاته أصبح “القائد الخالد”، وأضيف إلى ذلك لاحقا لقب “القائد المؤسس”، وليس هذا فحسب فسورية كلها رُبطت به وأصبحت“سورية الأسد”، وحتى دمشق صارت بدورها“دمشق الأسد”، هذا عدا عن المرافق الكثيرة التي حملت اسم “الأسد”، كـ“أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية” و“دار الأسد للثقافة والفنون”، و“معهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم” و“مكتبة الأسد الوطنية”، وسوى ذلك…
أما عن الشعارات فحدث ولا حرج، فقد امتلأت الشوارع والساحات والمرافق العامة والخاصة ومؤسسات الدولة ومكاتب الموظفين، بل وحتى المؤسسات الخاصة، بصور حافظ الأسد والشعارات والعبارات التي تعظمه وتمجده، ومنها “حافظ أسد بعد الله منعبده ”، و“سورية الأسد إلى الأبد”، وما شابه، ثم راحت صور باسل، الذي بدأ الترويج له كولي للعهد في بدايات التسعينات ترافق صور والده مع عبارات مثل “ذاك الشبل من ذاك الأسد”، وبعد موت باسل وانتقال حملة الترويج إلى بشار بدأت تنتشر صور لحافظ الأسد مع ابنيه باسل وبشار تحمل كتابات مثل “الأصل.. فقيد الوطن.. الأمل”، وبدأ ينتشر شعار “بشار الأمل”.
وهذا كله ورثه بشار بعد موت والده عام 2000!
لكن الشعارات وعبارات ومظاهر التعظيم لم تكن تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزته بعيدا إلى حد كبير من الهوس، ففي عهد حافظ كثيرا ما كان أتباعه من طائفته يهتفون: (يا الله حلك حلك تحط الأسد محلك. حط التين عالتفاح زمن محمد ولا وراح)[3]، وفي عهد بشار صار الشبيحة يضعون صورته على الأرض في الساحات العامة ويسجدون لها ويقولون: (أنت رب .. وبيَّك رب .. ونحن عبيدك يا بشار)، و(مطرح ما بتدوس.. رح نركع ونبوس)، كما كان المعتقلون يرغمون تحت التعذيب على السجود لصورة بشار[4]، وخلال مهزلة الانتخابات الأخيرة انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لتجمّع من المؤيدين الذين يهتفون: (هي ويلا بشار هو الله)[5].
وهكذا تحول الأسد بشخصيه الأب والابن إلى صنم!
3- مات الأسد.. عاش الأسد!
عند موت أبيه لم يكن بشار الطرف الأقوى المؤهل لاستلام السلطة في سورية، وكانت مراكز القوى في أيدي كبار ضباط أبيه الذين، ومع ذلك فقد اتفق هؤلاء على تسليمه الرئاسة، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بدافع الوفاء، فكلمة الوفاء لا وجود لها في قواميسهم، التي تسيطر عليها المصلحة الشخصية والغطرسة والعنجهية إلى حدود متفاقمة، فرضى هؤلاء برئاسة بشار، لم يكن فعليا رضى بشخصه، بل بصفته “ابن حافظ”، فهؤلاء وكل كبار أعوان الأسد، كانوا يدركون أنهم أعضاء في “هيكل”، و“صنم” هذا الهيكل كان “حافظ الأسد”، وبرحيل حافظ لا يجب أن يخلو هذا الهيكل من صنمه، والمرشح الأوحد لتقمص هذا الصنم كان بشار، والسبيل الأوحد لذلك هو الوراثة، وهكذا ورث بشار صنم أبيه، ورحل حافظ الأسد، ولكن الرئيس الأسد أو الصنم الأسد لم يرحل وهذا هو المطلوب!
تذكرنا هذه الحالة بأيام المَلكيات المطلقة في أوروبا القروسطية، فعندما كان ملك يموت كان يُهتف في إعلان وفاته “مات الملك.. عاش الملك” في إشارة إلى الملك الجديد الذي يحل محل القديم، فالعرش يجب ألا يخلو من ملك.
وكذلك هو الحال في“مملكة أو هيكل الأسد”، فالصنم لا يجب أن يغادر سدة الهيكل، ولذلك يستمر التشبث ببشار من قبل حلفائه وأعوانه، وهم يصرون تماما على إبقائه في مكانه، حتى ولو شكليا، لأنهم يدركون قيمته الصنمية الرمزية في هيكله، الذي يمكن أن ينهار إن فقد صنمه، ولا صنم في الوقت الراهن يستطيع أن يحل محل بشار!
4- الديكتاتور يحتكر ويختزل الوطن:
عندما تتحول مؤسسة الدولة إلى هيكل ويصبح زعيمها صنما، فمن المحتم أن يتم اختزال الوطن في شخص الزعيم الصنم، فالزعيم المقدس يصبح هو الأساس الذي يدور حوله كل شيء ويتبعه كل شيء فهو سيد كل شيء بما في ذلك الوطن.
وهكذا أصبح “الأسد هو سورية”، وسورية هي “سورية الأسد إلى الأبد”، ومعنى ذلك أن سورية لا يمكنها أن تكون سورية إن هي لم تكن أسدية، وذاك بدوره يعني أن وجودها غدا مرهونا ومربوطا بوجود الأسد، وأنه لا سورية بلا أسد، ولذا لم يكن عجيبا على شبيحة الأسد عندما انطلقت الثورة ضده أن يرفعوا شعارات مثل: “الأسد أو لا أحد” و“الأسد أو نحرق البلد”، فشعارات مثل هذه تدل على أن الهوس بالأسد قد بلغ عند أتباعه حده الأقصى الذي باتوا فيه على استعداد لتدمير كل شيء في سبيله، وأن كل أحد أو شيء آخر بالمقارنة معه لا قيمة له بالنسبة لهم.
وعندما تسود مثل هذه العقيدة الجهنمية، لن يكون غريبا بنظر أتباعها أن يبقى شخص الأسد ونظام الأسد وطنيين رغم كل ما يستشري في البلاد من ضروب الفساد والتدهور تحت نير الأسد، فمعيار وطنية الأسد عند أتباعه لا يتحدد بمصلحة سورية، بل يتحدد بشخصه وينبع من شخصه كأسد ولا شيء سوى ذلك، والأسد المعظم المقدس، هو وطني بطبيعته المعظمة المقدسة الخاصة، وليس بوفائه لسورية، ولذا فهو يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، فكل ما يفعله عظيم وقدوس.. ووطني بالطبع!
5- التكفير والتخوين:
كما سلف القول، عندما يصبح الزعيم صنما معبودا ويختزل في شخصه الوطن، تصبح الوطنية حكما حالة من الولاء والرضوخ للزعيم، وبالتالي فلكي تثبت وطنيتك في سورية عليك اليوم حصريا إثبات ولائك لبشار الأسد، وهذا ما كان الحال عليه في عهد أبيه من قبل، والولاء بالطبع يعني الرضوخ، وبقدر ما تكون خاضعا للأسد في سورية الأسد، تنال شهادة حسن رضوخ وطني بالمعايير الأسدية.
أما إن كنت معارضا للأسد، فيا للعار، فأنت تعارض الوطن، وإن كنت ضد الأسد فأنت ضد الوطنية، وبفعلك هذا تعرب عن خيانتك، والوطني لا يفعل فعلا عظيم الشناعة كهذا، ومن يفعل فعلا كهذا هو خائن!
هذا السلوك الذي يتم فيه تخوين من يعارض الأسد من قبل أتباع العقيدة الأسدية، لا يختلف قطعا عن سلوك الجماعات التكفيرية التي تقوم بتكفير كل من يخالف عقيدتها، وفي كلتا الحالتين لا يتوقف الأمر فقط عند الحكم النظري، فالكفر والخيانة هما من الكبائر، ولذا يجب أن ينزل بصاحبهما أقسى العقاب، وهذا ما يفعله على أرض الواقع كل من الإرهابيين التكفيريين وشبيحة الأسد، الذين لا مانع لديهم من اللجوء إلى أقصى درجات العنف للقضاء على من يُعتبرون بنظرهم كفرة أو خونة، وبنظرهم الخونة والكفرة يستحقون مثل هذا العقاب!
ولذا كانت السجون والمعتقلات في عهد الأسد أبا وابنا تمتلئ بـ (الخونة) الذين كانوا يسامون أقسى أنواع العذاب عقابا على خيانتهم للأسد وكفرهم بربوبيته، ولاحقا صار لابد من عقابهم بسياسة الأرض المحروقة بعد أن وصل بهم الكفر والخيانة إلى حد الثورة عليه!
6- أجهزة الأمن ومحاكم التفتيش:
كل هيكل أو عقيدة يحتاجان بالطبع إلى حراس هيكل وحماة عقيدة، وفي نظام أو “هيكل الأسد” تقوم بهذا الدور البالغ الأهمية الفروع والمحاكم الأمنية، فهي المكلفة بالقضاء على كل مخالفي ومعارضي وخصوم هذا الهيكل وفرض “عقيدة التوحيد الأسدي” المكرسة لـ “وحدانية ربوبية الأسد”.
وهكذا تصبح هذه الأجهزة أشبه ما تكون بمحاكم تفتيش مهمتها التخلص من كل فكر أو خطاب مخالف لخطاب السلطة الأسدية، فهذا الخطاب الأسدي هو وحده “العقيدة القويمة” وبشكل تام الحصرية، وأي خطاب مختلف أو مخالف هو “هرطقة”، والهراطقة الأشرار الفاسدين يجب أن يحرقوا بالنار عقابا على شرهم وخلاصا من خطرهم!
وهذا ما تفلح فيه في سورية الأسد بشكل نموذجي محاكم التفتيش الأمنية الأسدية العديدة ذات الأجناد الكثيرين من المستخدمين والعملاء الرسميين وغير الرسميين!
7- كهنة الديانة الأسدية:
كما في كل ديانة، لابد من وجود كهنة ورجال دين يحرصون على نشر وترسيخ العقيدة، وفي الديانة الأسدية، هناك الكثير منهم، وهؤلاء يمثلهم حشد مسؤولي النظام الذين لا يتم قطعا اختيارهم بناء على الكفاءات الاحترافية، بل يتم اختيارهم بشكل رئيس على معايير الولاء، وبآليات الواسطة والمحسوبية والرشوة وما شابه، وهؤلاء أيا كانت الطريقة التي يصلون بها إلى مواقع المسؤولية في القطاع الأمني والعسكري والشرطي ومؤسسات الدولة والمرافق والشركات العامة والحزب الحاكم والأحزاب الموالية ومؤسسات الضبط الاجتماعي من نقابات واتحادات مهنية وتنظيمات اجتماعية، فكلهم ملزم بأن يقدم فروض الطاعة لمولاه الأسدي لكي يبقى أو يعلو في منصبه ويحصل على مكاسبه الفاسدة.
وهكذا يتحول جيش المسؤولين هذا بكبيرهم وصغيرهم إلى جيش من الكهنة الذين يقومون بنشر العقيدة الأسدية وترسيخها ومساعدة الأجهزة الأمنية على حمايتها، وبذلك يكون الأسد قد أحكم سيطرته على البلد، وضمن نشر وترويج ديانته في كل قطاعاتها السلطوية والعسكرية والمدنية، من جيش وأمن وشرطة، وسياسة وإعلام وثقافة وتربية ومؤسسات إنتاجية وإدارات خدمية، وهلم جرى، وحتى القطاع الديني التقليدي ليس في معزل قطعا من ذلك، بل العكس، فالأسد يدرك مدى أهمية وخطورة هذا القطاع، وضرورة السيطرة عليه وضبطه برجال دين موالين يتم تعيينهم من قبله، لكي يقوموا بدورهم بتمجيده والترويج له في أوساط المؤمنين على غرار الشيخ حسام الدين فرفور الذي شبه بشار بأنه “يتخلق بأخلاق الله” في خطبة عيد الفطر في الجامع الأموي بدمشق، التي حضرها بشار في 13 من أيار 2021[6]، وهذا مجرد مثال على هذه العينة من رجال الدين، الذين لا تختلف عنهم أية عينة من المسؤولين الآخرين، بما فيهم أعضاء ما يسمى بـ “مجلس الشعب”، الذي دائما ما يعير عن طبيعته التشبيحية ويؤكدها في مواقفه المتكررة، وكلنا نذكر مهزلة التشبيح والتصفيق المخزية التي قام بها أعضاء هذا المجلس أثناء خطاب بشار فيه بعد انطلاقة الثورة في ربيع عام 2011، والذي بلغ فيه حدة التشبيح عند العضو خالد العلي إلى حد القول لبشار: (الوطن العربي قليل عليك وأنت لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس)!
خلاصة:
بناء على ما تقدم يمكن القول أن “الأسدية” ليست مجرد نظام ديكتاتوري سياسي يحكم قبضته على البلاد بأدوات سياسية وسلطوية، ولكنها -أي الأسدية- شكل من أشكال الدين، والقائمين عليها يدركون تماما أهمية الدين في الحكم، وهم بالطبع لا يتورعون عن استغلال الأديان التقليدية لهذا الغرض إلى أقصى حد ممكن، ولكنهم يدركون جيدا أن هذا لا يكفي، فهم يعلمون أن هذه الأديان يمكن أن تُستغل أيضا من قبل خصومهم، ولذا فلابد لهم من ديانتهم الخاصة، التي تقوم على مركزية زعيمهم الأسدي، ففي مثل هذه الديانة لا يعود الأسد بحاجة إلى تقديس يسبغه عليه الأغيار من الخارج، بل يصبح هو نفسه مصدرا للقداسة، ويصبح لديه كهنته الخاصين الذين يخدمونه انطلاقا من قداسته الذاتية التي لا يمكن لغيره أن ينافسه فيها، إلا إذا أعطي الفرصة المماثلة ليتحول إلى زعيم صنم، وهذا ما لا يتيحه قطعا هيكل الأسد الذي يبطش بكل عنف بكل منافس أو معارض، وعدا عن ذلك، فالديانة الخاصة ليست مفيدة عمليا وحسب، فهي بنفس الوقت ترضي عنجهية وكبر الأسد، وفي ذلك لا خلاف بين الأب والابن، فذاك الغصن من ذاك الشجر، وكل منهما لديه مثل أي طاغية آخر ذات متضخمة، ولا يرضى بأن يشاركه أحد السلطة والعظمة، وهذا ما يجعله صنما في محصلة المطاف.
محتوى المادة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المركز
[1] إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية، سلسلة عالم المعرفة- العدد 183، الكويت- آذار 1994، ص 7.
[2] عبدالرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، مؤسسة هنداوي، https://bit.ly/3ykawck
[3] رابطة العلماء السوريين، كلمة في الارهاب، https://bit.ly/3MctyXZ
[4] منتدى الثورة السورية، السجود لغير الله كفر .. فلماذا صار السجود لحكامنا وسيلة للتعبير عن الولاء ؟؟ https://www.syria7ra.net/t72900-topic
[5] تقديس الأسد.. حالة مرَضية يعيشها سوريون ما علاجها، موقع عنب بلدي، 24\5\2021، https://bit.ly/3ylIHR4
[6] صالح ملص، تأليه الأسد.. سوريون يعبدون خوفهم، 23\5\2021، موقع عنب بلدي، https://bit.ly/3fMF1Bq