مقالات

رؤية في مآلات المناطق المحررة

يذهب البعض من أمثال “جوزيف شتراير” إلى اعتبار الإنسان لا شيئا بدون دولة، بقوله: إن أفظع مصير يمكن معرفته في العالم الراهن، هو مصير من لا وطن له”، ويؤكد “شتراير” أن شخصاً بدون عائلة، وبدون سكن ثابت، وبدون انتماء ديني يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية، لكنه بدون دولة ليس شيئاً، وليست له حقوق، ولا أمن، وعلى الأرض لا خلاص خارج إطار دولة منظمة، وهذه لم تكن الحالة دائماً، لقد كانت ثمة عهود ليست بعيدة جداً على قياس التاريخ، حيث لم تكن الدولة موجودة، دون أن يوجد أحد يعترض على هذا الغياب.

تصلح تلك المقدمة لمقاربة الأوضاع التي تمر بها بعض المناطق المحررة، وأغلب المؤشرات تقول إن الحرب في سوريا وضعت أوزارها إلى أجل غير مسمى بالتزامن مع حالة من الاستعصاء السياسي الذي يبدو هو الآخر مستمر إلى أجل غير مسمى. لذلك، فمن الطبيعي أن يشعر سكان تلك المناطق بالتيه وضيق الأفق وثقل الانتظار. في الواقع، إنها حالة قريبة جدا إلى الحالة التي أشار إليها “شتراير” (فظاعة المصير). ولكن، رغم ذلك، فالاعتراض على عدم وجود الدولة لم يتبلور بشكل واضح ولم يتجسد كمطلب واضح المعالم لدى المكونات الجزئية لهذا المجتمع وإن كانت بعض إرهاصاته بدأت بالظهور بين الفينة والأخرى. فمن خلال الانتشار الفطري لمنظمات المجتمع المدني يشعر أغلب الناشطين المهتمين بإنشاء هذه الكيانات الوليدة بأن هناك حلقة مفقودة لا بد من وجودها لكي تأخذ هذه الأجسام شكلها الطبيعي، أو لنقل: لتصبح البيئة أكثر ملاءمة لنشوء هذه التنظيمات وقيامها بالدور المتوخى منها القيام به.

تكمن المشكلة في أن المجتمع المدني أصلا مصطلح لم يظهر إلا في ظل الدولة، وفكرة المجتمع المدني ومنظماته ووجودها مرتبط بشكل كبير مع مفهوم الدولة الحديثة التي تمكن مختلف مكونات المجتمع من التعبير عن نفسها وعن مصالحها والدفاع عنها، وهي مكون أساسي من مكونات الدولة، وتتفق غالبية مدارس الفكر السياسي على أن وجود منظمات المجتمع المدني في أي دولة مؤشر على تقدم هذه الدولة، ويرتبط بذلك مستوى الحرية والاستقلالية التي تتمتع بها هذه المنظمات في عملها، إلى جانب مستوى البيئة السياسية والقانونية الممكنة لعملها، والمستندة عادة إلى المعايير الدولية والممارسات الفضلى لحرية التنظيم والتجمع السلمي وحرية الرأي والتعبير.

بعض المنظرين يرى أنه لا يوجد ما يمنع من ظهور مجتمع مدني بدون دولة والاكتفاء بوجود سلطة فقط، وهو الحد الأدنى والحالة الاستثنائية لإمكانية ظهور مجتمع مدني فاعل يعبر عن حالة صحية في المجتمع، أما أن يقتصر نشاط المجتمع على تشكيل منظمات المجتمع المدني غير آبه بوجود الدولة أو وجود السلطة فتلك حالة لا يمكن الثقة بنتائجها المستقبلية، فمنظمات المجتمع المدني التي تقوم في بداية نشأتها وتشكلها بتقديم الكثير من الخدمات للمواطنين مخففة من وقع غياب الدولة ومؤسساتها، إلا أنها لا تلبث، مع الوقت، أن تتحول إلى تعبير فاضح عن الصراع الاجتماعي الذي يتطور بشكل متصاعد ليتحول إلى صراع متوحش يتمثل بحروب أهلية كما رصدت ذلك بعض الدراسات. ورغم أن الدولة كيان قام بالأساس لمنع التوحش، فإنه كيان قابل في ذاته للتوحش لذلك فإنه يجب حصر دورها في أضيق الحدود. من هنا يمكن القول: إن غياب الدولة أو شبه الدولة عن بعض المناطق المحررة حتى الآن يضع مستقبل هذه المناطق أمام ثلاثة احتمالات يمكن التنبؤ بها على الشكل التالي:

  • الاحتمال الأول؛ هو استمرار الوضع على ما هو عليه من غياب السلطة الفعلية. وبالتالي، تفاقم الصراع وانتقاله إلى مستويات أكثر حدة قد تصل إلى مستوى العنف الذي قد يجعل هذه المناطق في حالة أكثر تعقيدا مما هي عليه الآن. ولعل الذي يجعل هذا الاحتمال وارد؛ هو التجربة المريرة للسوريين مع السلطة التي طُبعت بطابع الاستبداد خلال آخر خمسة عقود من عمر الدولة السورية. يضاف إلى ذلك، اعتياد الفوضى التي كانت نتاجا طبيعيا لانتشار الفساد.
  • الاحتمال الثاني؛ هو التحالف والتزاوج بين السلطة الهشة المتمثلة بمؤسسات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني القوية والفاعلة، وهو ما يعني إعادة إنتاج سلطة مستبدة لا تختلف كثيرا عن السلطة التي ثار السوريون لإسقاطها. ولعل هذا الاحتمال هو الأكثر ورودا، خاصة وأن إرهاصاته بدأت بالظهور، فحسب بعض المعلومات، تبحث مؤسسات المعارضة عن زيادة شرعيتها في الداخل عن طريق زيادة تمثيل قوى الداخل في مؤسسات المعارضة من خلال استحداث مقاعد جديدة تستوعب ممثلين عن النقابات التي هي من المفترض أن تكون من أهم منظمات المجتمع المدني التي تحمي المجتمع من تغول السلطة. وفي تتمة المعلومة أن منظمات المجتمع المدني المستهدفة بهذا الاحتواء، من نقابات وغيرها، تلهث خلف هذا الهدف.
  • الاحتمال الثالث، وهو المرتجى والمفضل، أن يدفع الشعور بالحاجة إلى الدولة ومؤسساتها إلى إفساح المجال لتمدد السلطات الهلامية الموجودة الآن لتصبح أكثر مقدرة على إدارة هذه المناطق وملئ الفراغ الذي أحدثه غياب الدولة مع بقاء منظمات المجتمع المدني كوسيط بين السلطة والمواطن وضامن لعدم تغول السلطة.

بناء على ما سبق يمكن القول: إن الاحتمال الثالث رغم ضآلة حظوظه يجب أن يكون الهدف المنشود من القوى الثورية المتواجدة في هذه المناطق، لأنه إن حصل في سياق مطالب واعية، فإنه لن يكون في النهاية سوى تقديم الأنموذج البديل الذي لم تتوقف القوى الدولية يوما عن المطالبة به، والذي مازلنا حتى الآن عاجزون عن إنتاجه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى