مقالات

هل تجرؤ النخب السورية على مواجهة الذات قبل فوات الأوان؟

في محاولة لتفسير التفوق الأمريكي يتحدث بعض الدارسين للحالة الأمريكية عن أسلوب متفوق في الإدارة؛ أهم ما يميزه وقفة التقييم التي تعقب كل مرحلة للوقوف على ما تم إنجازه وما لم يتم، والبحث عن مواطن القوة لعزيزها، وفي محطات الإخفاق لتفسيرها ومحاولة تلافي الأخطاء التي تسببت بتلك الإخفاقات؛ لذلك توصف السياسة الأمريكية بالدينامية والحيوية المستمرة التي هي أحد أهم أسس النجاح. وإذا كان الأمريكيون بشكل خاص والدول المتقدمة بشكل عام يتبعون الأساليب الإدارية الحديثة التي تعتمد التقييم المرحلي من أجل المحافظة على النجاح والتفوق؛ يُعتقد أن الشعوب التي تخوض تجارب متعثرة أولى بهذه المراجعات والوقفات مع الذات. من هنا يمكن القول إن الشعب السوري الذي قدم الغالي والنفيس في سبيل استعادة حريته وكرامته المسلوبة بحاجة ماسة إلى وقفة مع الذات والبحث في أسباب التعثر الذي رافق ثورته حتى الآن، إذ لا يكفي أن نلقي بالملامة على الآخرين.

 في كتاب “شخصية مصر” وفي إطار نقده للشخصية المصرية النمطية يقول الدكتور جمال حمدان: “فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحي إلى الكبر المرضي، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى العزة الشوفينية الساذجة البلهاء أو الهوجاء”. وفي عمل مشابه قدم سمير عبده كتابا بعنوان “التحليل النفسي للعقلية السورية” تطرق في ثناياه لما ذكره جمال حمدان عن الشخصية النمطية المصرية معتبرا أنها من الصفات المشتركة بين الشعبين السوري والمصري. وبعد أن أشبع سمير عبده الشخصية السورية مدحا؛ التفت إلى سلبيات هذه الشخصية فنسب إلى العقل السوري مجموعة من المتناقضات والمتضادات منها وعلى رأسها عدم احترام القانون والعرف، وبطء الإنتاج الوظيفي وتسلل النفاق إلى العلاقات الوظيفية، والعقلية السورية أيضاً ـ وحسب سمير عبده ـ عقلية تآمرية ومستسلمة لغيبوبة الماضي تعيش على التاريخ أكثر مما تفكر بالمستقبل، وهي عقلية تسلطية وتنافرية متناقضة يلفها الغموض السلبي وبارعة في عمليات تبديد الوقت والمواهب.

لا أحد يعلم عدد السوريين الذين يوافقون سمير عبده بما ذهب إليه. ولكن، أغلب الظن أن من يرفضون الاعتراف بهذه العيوب إنما هم يفضلون خداع النفس، وهم الأكثرية. وخداع النفس هو من الحيل النفسية اللاشعورية التي يلجأ إليها الشخص لتبرير بعض السلوكيات التي قام بها، والتقليل من القلق والتوتر اللذين يتبعان هذا السلوك. حيث يقوم الشخص، من خلال عملية خداع النفس، باتباع بعض الحيل النفسية؛ بهدف بعث الطمأنينة إلى نفسه، ولكي يحتفظ بمقدار أكبر من الثقة الزائفة بنفسه أيضاً، وهو أشبه بمن يكذب على نفسه، موهِماً إياها بسلوكه الصائب والسديد، مع قناعته الداخلية بمقدار الخطأ الذي ارتكبه. لقد تحدث علماء النفس عن عدة طرق يخدع الإنسان نفسه بها، مثل: التحيّز في جمع المعلومات، والتحيّز في التفكير، والتحيّز في استعادة الذكريات.

ولأن المجال لا يتسع لمزيد من الأمثلة يمكن سوق المثال التالي الذي يشير بوضوح إلى التحيز في استعادة الذكريات والعيش في التاريخ، سواء القريب منه أو البعيد، كما يشير إلى التناقض الصارخ: يتحدث الكثير من السوريين المحسوبين على الثورة ما يسمونه “الزمن الجميل”، ويقصدون به أيامهم الماضية قبل الثورة، ولطالما استعاد هؤلاء ذكريات السهر والسمر والسعادة التي كانت تغمرهم، بل ويتحسرون على أن سوريا لن تعود كما كانت وكأن سوريا كانت جميلة وهناك من أخطأ وحرمهم من تلك الحياة السعيدة. يقول أحد السوريين معلقا على ما قاله بعض السوريين عقب وفاة صباح فخري: “فقط السوريون الجالسون بأمان ونعيم في أوروبا وأمريكا بعد الهروب الكبير يسمّون ذلك “زمنا جميلا” بأنانية ووهم كاذب. هو نوع من الدفاع عن النفس في عالمهم الجديد الجميل. لا يريدون أن يعترفوا أمام أنفسهم وأمام مضيفيهم أنهم جاءوا من بلاد منهارة، من ثقافة مريضة، من مجتمع كريه، ومن دولة فاشلة. هم عاجزون عن القطيعة مع ذاك الماضي ويحملون بذور هذا البلاء أينما حلوا. وجدتُ هذا لدى الإسلامي المتحفظ، كما وجدته لدى الليبرالي المتفتح. وجدته لدى الأمي المنتوف كما وجدته لدى الدكتور الفيلسوف. وهكذا عندما يموت رمز كبير من ذاك الزمن “الجميل” المخجل يخرجون بقضهم وقضيضيهم ينعون ويبكون ويتحسرون على تلك الأيام البريئة الزاهية التي كانوا يرقصون ويغنون وينامون فيها ملئ عيونهم في حلب ودمشق وحمص واللاذقية، “أجمل حواضر الدنيا حيث الجنة أو هي فوقها أو تحتها” فيما كانت في حقيقتها مدن خرائب مليئة بأقبية التعذيب يعيش وسطها فئة قليلة من المحظوظين المنتفعين الممالقين ويحيط بها المعثرون “المعتّرين” بكل صنوفهم مدينيين وريفيين وعسس في أطواق على أطواق من الفقر والحرمان والتخلف. هذه هي القضية يا سادتي. ليست القضية في حقيقتها صباح فخري وإنما سوريون عاجزون عن الخروج من هذه الكذبة التاريخية الكبرى”. لست أدري؛ أليس في هذا تناقض صارخ؟! أليس فيه انفصام عن الواقع؟! أليس فيه خداع للنفس وانحياز مرضي في استعادة الذكريات؟

الاعتراف وتمييز الأخطاء والعيوب هو الخطوة الاولى في إظهار الرغبة في التغيير والتجاوز، وذلك يتطلب شجاعة كبيرة للخروج من هذه الحالة التي استغرقت وقتا طويلا، فارتكاب الأخطاء الناتجة عن عيوب بالتفكير والطباع والعادات أمر طبيعي كوننا بشرا، وهذا لا يعني تطبيق أحكام قاسية على النفس وإنزال العقوبة بها وتقويض الشخصية ونكران الذات وفقدان الثقة بالنفس، فما حصل أمر طبيعي ويجب إدراك هذا، والجميع يرتكب أخطاء، ولكن السلبية في التعامل معها هي ما يتركنا عالقين هناك.

عيوبنا وأخطاؤنا كافية لإفشال أعظم الثورات، وإن لم نكف عن خداع أنفسنا فإن تضحيات الشعب السوري في طريقها إلى الهدر. ولعل الكلام الذي يجب أن يقال إن المسؤولية تقع على عاتق النخب، فالشعوب، بشكل عام؛ ترتقي بفضل نخبها، وتنحدر وتتخلف كنتيجة طبيعية لتخلف نخبها. لذلك، يعتقد أن كل النخب السياسية والاجتماعية والثقافية مدعوة لوقفة مراجعة وتقييم للعشر سنوات الماضية من عمر الثورة، وبالتالي، الاعتراف بالأخطاء والعيوب التي أوصلتنا لما نحن فيه، ومن ثم طرح الحلول لتصحيح الأخطاء. كل ما يحتاجه الأمر هو الشجاعة التي لطالما اعتبرناها من أهم مزايا السوريين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى