معضلة الرئيس القادم نتيجة حتمية لإهمال الإعلام والتوعية
أصبح السوريون اليوم -في غالبيتهم- يعلمون أنهم لم يعودوا لاعبا يعتد برأيه في القضية السورية، فالمؤتمرات والمفاوضات والمداولات التي تحصل بخصوص القضية السورية تقودها أطراف دولية وإقليمية دونما حضور لممثلين عن الأطراف السورية، ودونما اكتراث فعلي بوجهة نظر أصحاب القضية.
للوهلة الأولى قد تبدو مفارقة أن يكون أصحاب القضية خارج قضيتهم، إلا أن المتابع والمراقب لمسيرة التطورات والوقائع يستطيع أن يحكم بسهولة أن ما وصل إليه السوريون من واقع متردٍ يمكن إرجاعه إلى عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، تضافرت فيما بينها لتنتج تلك المفارقة، هذه العوامل وغيرها؛ جعلت الشعب السوري الثائر بحاجة لاجتياز طريق شديدة الوعورة تختلف بشكل جذري عن الطرق التي اتخذتها ثورات الربيع العربي الأخرى. وبالتالي، كانت الحاجة ملحة لوجود قيادة تدرك هذه الوقائع وسبل التعامل معه لتعبر بالثورة إلى شط الأمان، لكن تلك القيادة لم توجد، بل على النقيض تماما؛ فقد كان أداء الاجسام السياسية والشخصيات المعارضة – بشكل عام – لا يرقى لذلك ، وربما الآن وبعد مرور ما يقارب العشرة أعوام على انطلاقة الثورة يصعب أن نجد سوريا واحدا يعترض على هذا الحكم (الفشل)، فالثورة السورية التي تحولت نتيجة اجرام النظام إلى أكبر كارثة إنسانية في هذا القرن لا يمكن ربطها بالعوامل الخارجية فقط، بل كان للعوامل الذاتية دور لا يقل شأنا عن العوامل الخارجية، فالأخطاء التي ارتكبت أكثر من تعد أو أن تحتويها مقالة، ولعل عدم الاهتمام بالإعلام، وغياب جهة مركزية تدير الحرب الإعلامية بالتوازي مع الأعمال العسكرية واحد من أهم الأخطاء التي ارتكبت على الإطلاق.
ليس الإعلام في زمن الحرب مجرد إعلام؛ إنه دعاية وتوعية سياسية، وهو حرب نفسية وحرب إشاعات ورد ادعاءات وكشف أكاذيب، وهو خلق وتكريس ثقافة جديدة وقيم جديدة، وهو تواصل مع الجمهور، وهو النافذة التي يخاطب العالم من خلالها، وعن طريق الإعلام ترفع معنويات الصديق، وعن طريقه ترسل الرسائل المحبطة للعدو، والإعلام باختصار: سلاح لا يمكن أن تخاض حرب بدونه، ولا يمكن لجيش مهما بلغ من قوة أن يستغني عنه. يقول نابليون بونابرت: إنني أتوجس خيفة من ثلاث جرائد أكثر مما أتوجس من مائة ألف مقاتل. لذلك، فغياب جهة مركزية تدير الحرب الإعلامية وتوجه الشارع الثوري ليس تقصيرا فقط، بل يصل لحد الخطأ الاستراتيجي، فترك هذه المساحة مفتوحة يعبث فيها من يشاء جعلت الشارع الثوري شارعا منفعلا تجاه كل ما يتلقاه من أخبار، وتربة خصبة لنمو الشائعات وتلقي ضربات
الحرب النفسية، وجعلته حقل تجارب لكل من يرغب بإجراء تجربة. وعليه، ليس من المستغرب أن تثير مجرد “تغريدة على موقع تويتر” من الصحفي الإسرائيلي “إيدي كوهين” كل هذا اللغط والجدال والردح المتبادل رغم أنها لا تحمل أية قيمة أو مصداقية فعلية، وكذلك، ليس من الإجحاف أن يطلق المرء على رد فعل الشارع الثوري تجاه أية شخصية أو اسم يطرح كمرشح لمنصب الرئاسة تسمية “الظاهرة”، فلم يكن فهد المصري وحده الذي أثيرت حوله هذه الضجة، فقبله كان جمال سليمان، وكانت رندة قسيس، وكان غيرهم. فالاستهجان والرفض طال كل الأشخاص الذين تعمدت بعض المصادر إلقاء أسمائهم في ساحة الاختبار أو تحت سيف الألسن، وكأن لسان حال السوريين يقول: “لا نريد رئيسا أبدا”.
إذن، الرفض والسخرية والاستهزاء، وأحيانا الشتم لكل من يُقال عنه، أو يقول عن نفسه أنه مرشح محتمل لرئاسة سورية المستقبل: “ظاهرة”، والكلمة لا تحمل في ثنايا معانيها أية قيمة أخلاقية؛ فهي لا تعني خيرا أو شرا، كذلك لا تعني قبحا أو جمالا، لكن طبيعة الظاهرة المقصودة هي التي تعطيها قيمتها، وهي في الحالة السورية ظاهرة خطيرة تثير القلق. ولأن المقالات لا تتسع لدراسة ظاهرة بهذا الحجم يمكن التعريج باختصار على ما يعتقد أنها أهم أسباب هذه الظاهرة.
- أولا- التصور الذي طبع في ذاكرة السوريين حول مقام الرئاسة، فأغلب السوريين حتى الآن لا يستطيع تصور الرئيس خارج دائرة “المستبد الظالم”. لذلك، ستبقى مسألة التوافق على شخص الرئيس لمرحلة ما بعد الأسد من أصعب الأمور ما لم يقتنع السوريون أن الصلاحيات التي استولى عليها الرئيس في العقود الماضية هي مسألة لن تتكرر مستقبلا.
- ثانيا- يشعر السوريون أنهم قدموا تضحيات استثنائية فاقت كل تصور -وهي بالفعل كذلك- لذلك يفضل أن تسند مهمة الرئاسة المتوقعة لمرحلة ما بعد الثورة لشخصية استثنائية كما هي الثورة السورية.
- ثالثا- طبيعة النخبة التي تصدرت المشهد، والتي هيمنت على أغلب أفرادها ثقافة تحطيم الآخر. حيث شكك الجميع بالجميع ضمن حملات سارت جنبا إلى جنب مع حملات التشكيك التي كانت تقودها الآلة الإعلامية للنظام السوري وحلفائه.
هذا، ويمكن العثور على أسباب أخرى لها علاقة بطباع الشعب السوري وثقافته. ولكن على الرغم من ذلك، فإلقاء تبعات الواقع المتردي على كاهل الشعب السوري واعتباره أحد الأطراف المسؤولة عن هذا التردي هو حكم جائر، فالشعب السوري بشهادة الجميع قدم أضعاف ما يتوجب على شعب أن يقدمه في ثورة، أما مسألة الوعي فلم يسبق لشعب في العالم أن أصبح واعيا من تلقاء نفسه، إنما هي مسؤولية النخب المثقفة التي كانت دائما هي القاطرة التي ترتقي بالشعب وتنقله إلى ثقافة جديدة وقيم جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة. وفيما لم تتوفر لدى الشعب السوري مثل هكذا نخبة -وللأسف الشديد- يمكن أن نتوقع ونحن أمام هذه المعضلة أن يعين أو يفرض اسم الرئيس القادم -عندما يحين الوقت- من قبل الجهات الخارجية التي تتفاوض اليوم في الشأن السوري، وربما من الإنصاف القول: إنها النتيجة الطبيعية لعجز السوريين عن إنجاز هذا الأمر من تلقاء أنفسهم.