مقالات

لا تَهزموا ثورة منتصرة !

قد لا يختلف اثنان على أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا أساسيا في تحريك الشارع السوري، ونجحت الفئات الشبابية باستبدال المساحة العامة التي يسيطر عليها النظام بمساحة افتراضية أثبتت قدرتها على التجييش والحشد والاستقطاب، وفتح قنوات للنقاش السياسي، إلا أن المطلع على طبيعة تلك النقاشات والجدالات التي أثيرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي يلاحظ بما لا يدع مجالا للشك أنها لم تغادر الإطار الذي أمضى السوريون عشرات الأعوام داخله، فالمفردات هي ذاتها من المؤامرة إلى العمالة إلى الخيانة، والمغالطات هي ذاتها، وأساليب محاكمة القضايا هي ذاتها. وباستثناء جزء بسيط مما قيل وما زال يقال لم يخرج الحوار عن إطار المناكفات الكلامية والدوران في حلقة مفرغة.

استفرد نظام الاستبداد بالشعب السوري المغلوب على أمره أكثر من أربعين عاما يلقنه ما شاء أن يلقنه، ويحجب عنه ما شاء أن يحجبه مستخدما كافة أساليب التضليل والاستغباء والمغالطات المنطقية. في تلك المرحلة لا يمكن تحميل أحد المسؤولية سوى نظام الاستبداد، فالمواطن السوري إنسان لا يختلف عن أي إنسان على وجه البسيطة يمكن أن تنطلي عليه الأكاذيب ويمكن تشكيل خارطته الذهنية بالطريقة التي ترغب بها السلطة الحاكمة ما دامت النخبة القادرة على إفشال مشاريع التدجين التي تنفذها أنظمة الاستبداد في شعوبها مغيبة قسرا، ولا يمكنها أن تعمل في بيئة تعتبر الكلمة المخالفة أكبر الجرائم. أما الآن وبعد مرور تسع سنوات على كسر حاجز الخوف والخروج عن سلطة المستبد يحق لنا أن نقول لفئة الأنتلجنسيا السورية أو النخب المثقفة: إذا كنا نعتبر كم أفواهكم وتحطيم أقلامكم من قبل سلطة الاستبداد جريمة؛ فماذا تودون أن نسمي انزواءكم إلى فضاءات لا يعرفها إلا أنتم تتبادلون الحوار في برجكم العاجي وتترفعون عن مخاطبة الإنسان العادي. فهل من المعقول أن يعجز المواطن السوري عن تفسير الهزيمة أو خسارة منطقة إلا عن طريق التخوين وقصص البيع والشراء؟ وهل من المعقول أن يحاكم السوريون قضايا التحالفات وفق مغالطة يعود تاريخها لأيام الحقبة الشيوعية؟ وهل من المعقول أن يقنع شعب منتصر نفسه أو يتم إقناعه أنه مغلوب وأنتم غائبون عن المشهد؟

يجب أن يعلم جميع السوريين أن ما حصل مؤخرا في أرياف حلب وإدلب ليس سوى نتيجة طبيعية وحتمية لدخول روسيا الحرب بآلتها العسكرية إلى جانب نظام الاستبداد في دمشق. ما حصل مؤخرا هو استمرار لمسلسل تساقط المناطق المحررة منطقة تلو الأخرى أمام بطش وجبروت القوة الروسية؛ فالسبب هو فارق القوة ولا شيء سواه وما الاتفاقيات والتسويات

التي حصلت إلا نتيجة لهذا الاختلال الفظيع في ميزان القوة وليست سببا فيما آلت إليه الأمور. إن اتهام البعض بالخيانة فيه إجحاف كبير، وإن إنشاء مقارنة بين الأيام التي كان الثوار فيها يتقدمون مع الأيام التي بدأ فيها التراجع والتقهقر لإثبات مقولات الخيانة والبيع والشراء عمل لا يخلو من التسطيح والسذاجة. فمواجهة جيش مهلهل يعتبر من أضعف جيوش العالم تنظيما أو تسليحا أو عقيدة قتالية تختلف كثيرا عن مواجهة سلاح الجو الروسي الذي يحرق الأرض لجيش مدعم بآلاف المرتزقة من أجل اجتياحها. وإن تأليف سيناريوهات يمكن للثوار من خلالها أن يربحوا المنازلة ضرب من الخيال.

“غبي من يخوض معركة يعلم أنه سيهزم فيها” تنسب هذه المقولة إلى “جنكيز خان” وهي من البداهة بمكان يستطيع من خلاله أبسط المقاتلين أن يكتشفها، وهي تفسر الجانب الأكبر من سيناريو تساقط المناطق في ريفي حلب وإدلب. فلقد تبين لأغلبية المقاتلين من خلال التجارب السابقة أن المواجهة كما غيرها ستحسم بعدم التكافؤ؛ لذلك لجأ معظمهم إلى الخيار العقلاني خيار الخروج بأقل الخسائر. وهذا الخيار يختلف اختلافا جذريا عن خيار جمهور وسائل التواصل الاجتماعي والذي يعكس وجهة نظر الشارع الثوري، فهؤلاء كانوا يفضلون أن يقاوم المقاتلون حتى آخر رجل. لا شك أن مقاومة من هذا النوع سترفع مقدار التكلفة للطرف الآخر، وربما تؤخر سقوط المناطق إلى حين؛ لكنها لن تمنع سقوط هذه المناطق بأي حال من الأحوال. فزيادة عدد المقاتلين تعني زيادة في عدد ضحايا القصف، واستخدام السلاح الثقيل من غير غطاء جوي يعني أهدافا سهلة الاصطياد بالنسبة للطيران. كل ما يمكن فعله تكرار سيناريو معركة ميسلون ونهاية يوسف العظمة الذي دفع إلى فعلته دفعا. ورغم ذلك، واهم من يعتقد أن النظام السوري قد انتصر، هو فاز في أسهل المنازلات الكثيرة التي يحتاج إلى الفوز فيها لإعلان النصر، وربما هي المنازلة الوحيدة التي يمكنه خوض غمارها، فمازال نصف الشعب السوري خارج المناطق التي يسيطر عليها، ومازالت بعض المناطق خارج سيطرته وهو يحتاج من أجل سيطرته عليها أن يهزم جيوشا تصعب هزيمتها، فعليه أن يطرد الجيش التركي من المناطق التي تتواجد فيها، وعليه أن يطرد الجيش الأمريكي من أماكن تواجده حول آبار النفط، وعليه أن يهزم قانون قيصر الذي أصبح موعد تطبيقه قريبا جدا. هذا بالإضافة إلى عشرات الاستحقاقات الداخلية والخارجية التي تصعب مواجهتها.

نحن بحاجة ملحة لاجتثاث ثقافة التخوين التي اكتسبناها من مدرسة البعث؛ ليس لأنها ثقافة قبيحة تسيء لصاحبها فحسب، بل لأنها ثقافة مدمرة قد تقتل حاملها، خاصة وأنها لم تكتف بإلقاء تبعاتها على مفاصل الثورة، بل امتدت لتشمل حكومات الدول التي انحازت إلى جانب الثورة، أو لنقل إنها مازالت هي العثرة الأساسية في وجه النظام التي تحول بينه وبين إعلان النصر، والتي يجب التعويل عليها. خاصة بعد أن تدخلت روسيا بقوتها العسكرية إلى جانب نظام الاستبداد. فالنظام السوري أباح لنفسه التحالف مع كل شذاذ الآفاق في سبيل هزيمة شعبه، بينما يعول كثيرا على جهوده السابقة في تشكيل شخصية المواطن السوري، بانتظار أن تؤتي تلك الجهود أكلها. وتتعاضد ثقافة التخوين هذه مع طرائق أخرى في التفكير مشتقة من مغالطات تعود بتاريخها إلى حقبة الحرب الباردة مشكلة سمة بارزة في الشخصية السورية تجعلها نافرة من الجميع منفرة للجميع، فمازال معظم السوريين حتى اليوم يرددون عبارة: دول الغرب لا تعمل إلا من أجل مصالحها، وبعبقرية فذة اكتشف البعض أن تركيا كذلك دولة تعمل من أجل مصالحها، ومع اعتبار هذه الصفة تهمة يكتمل المشهد الكئيب. إن دول الغرب تعمل من أجل مصالحها عبارة تحمل في طياتها إيحاء بأن دول الشرق جمعيات خيرية تعمل من أجل الآخرين، وهنا تكمن المغالطة، فالدول والشعوب كلها ومن غير استثناء تعمل من أجل مصالحها، وهذا القول ليس تهمة؛ وإنما إقرار بحقيقة من المفترض أن تكون معروفة لدرجة البداهة، وما علاقات التنافر أو التقارب بين الدول في النهاية إلا تجسيدا لمدى تقاطع المصالح أو تضاربها.

إذن، والحال كذلك، ما الضير أن تعتبر تركيا _ على سبيل المثال _ أن اجتياح إدلب من قبل قوات النظام مسألة أمن قومي ما دام هذا الاعتبار يلعب دورا في حماية بعض السوريين ويمنع النظام من تحقيق مراده؟ وما الضير في أن تتواجد الولايات المتحدة لمصلحة ما في شرق الفرات ما دام تواجدها هناك يصب في مصلحتي؟ وما الضير في أن تعتبر دول أخرى أن سقوط النظام السوري يخدم مصالحها. إن بعض الخطابات وبعض التقييمات في غير أوانها وفي غير مكانها ليست أكثر من خطابات مزايدة. فهل المطلوب ثورة على التواجد التركي والتواجد الأمريكي لكي نحقق للنظام ما يعجز عن تحقيقه. إن السؤال الذي يجب أن يتعلمه الجميع هو: ما البديل؟

وأخيرا، بالأمس أحد الجنرالات الروس وصف جنود النظام بأنهم سريعو الهرب العشوائي. فلا تتركوا أحدا يصف الشارع الثوري بأنه سريع الإحباط مفرط بالتشاؤم. إن ما حصل مؤخرا ليس أكثر من اندفاعة روسية لحجز الكرسي الأكبر على طاولة المفاوضات المتوقعة مستقبلا بخصوص التسوية النهائية. وهي تعلم جيدا أن فكرة النصر الحاسم بعيدة المنال، وأغلب الظن أن النظام السوري أصبح من الماضي، وأن دوره أصبح يفقد أهميته خاصة بعد أن نفذ آخر مهامه القتالية على تقدير أغلب المراقبين، فلا تهزموا ثورة منتصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى