عاصفة الصورة
مقطع الفيديو الذي جمع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الإسلامية اسماعيل هنية مع رئيس المجلس الاسلامي السوري الشيخ أسامة الرفاعي رفقة عدد من العلماء المسلمين، أثار عاصفة من الانتقادات في أوساط ناشطي مجتمع الثورة والمعارضة، كيف لا والحركة قد أعلنت أنها بصدد إعادة علاقاتها مع نظام الأسد وانقلبت على مواقفها الداعمة للثورة، وكان رئيسها قد وصف الجنرال الايراني المسؤول عن جرائم الحرب والخراب والدمار في سوريا بشهيد القدس ما أثار استياء الفلسطينيين قبل السوريين.
ولم ينفع التوضيح المرئي للمجلس في تهدئة الخواطر إذ لم يقتنع أحد بإمكانية ثني الحركة عن توجهها من قبل المجلس أو المفتي أو اتحاد العلماء المسلمين وهي التي لم تثنها اعتبارات انتمائها للعالم العربي ولا علاقاتها بالدول العربية عن الارتماء في أحضان نظام الولي الفقيه والاصطفاف العلني مع محوره، رغم تخريبه لأربع دول عربية وعبثه بالأمن القومي العربي، في هذه المرحلة التي تتبلور فيها محاور على مستوى الاقليم.
وقد انتقل الاستقطاب هذه المرة أيضا إلى نخب المعارضة، ولكن ليس بين المحورين العربي والإيراني وانما بين التيارين التقليديين العلماني والاسلامي، وان كان الظاهر هو الخلاف حول خطوة المجلس الإسلامي بوصفها خطوة سياسية، اعتبرها البعض حكمة واعتبرها البعض الآخر خيانة للثورة، وكل ينصب نفسه متحدث باسمها وضمين عليها، وتحول الأمر إلى تراشق اتهامات بين الفريقين كتقديس الرموز وإسقاطها وحق النقد ونقد النقد وتكررت مقولة فصل الدين عن السياسة وتنزيه المفتي عن الخوض فيها بوصفها حقل لا يفقهه رجال الدين ولا يدركون خفاياه وأبعاده، ليتشعب ذلك الاستقطاب ويخرج عن أصل الموضوع ومدلول الصورة كما سيفعل هذا المقال.
فتلك العاصفة التي ولدتها الصورة لم تكن سوى انعكاس للجدل الفكري البيزنطي بين التيارين الاسلامي والعلماني وربما الجدال داخل كل منهما أيضا بين يمين ويسار.
في الواقع ليس لدينا في مجتمع الثورة مشكلة في النقد ولا في نقد النقد فحرية الرأي والتعبير انتزعها السوريون بتضحياتهم وهي مكفولة عمليا، وكل سوري وسورية خارج سلطة النظام له منبره على وسائل التواصل على الشبكة العنكبوتية ويبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة على الأقل في الجغرافيا البعيدة عن مكان تواجده أو التي لا تطاله فيها عين الرقيب ويده، ولا أحد يستطيع تكميم الأفواه في الأمور العامة المتعلقة بالثورة.
ما نفتقر له بالفعل هو آليات إدارة الاختلاف، فتلك الآليات لم نتمرن عليها في الممارسة السياسية المتعارف عليها، وقد حرم منها السوريون جميعا لعقود طويلة، فلا تعددية حزبية ولا برامج سياسية، ولا برلمان ومجالس منتخبة، لذلك من الطبيعي ان نرى ذلك التباين الحاد في المواقف عند كل حدث، حتى ولو لم يكن له اية آثار أو انعكاسات على المسار العام كمثالنا الراهن، ولكن ما هو غير الطبيعي أن تصل الأمور إلى حد الفجور في الخصومة وتحويل الأمر إلى صراع سياسي بين نخب وناشطي التيارين، سيما أن ذلك الصراع ليس في وقته لأنه لا يمكن أن ينضبط بقواعد وأطر قانونية ومؤسساتية واضحة.
ومثل هذا الصراع الفكري لا يعني السوري العادي الباحث عن أمنه الغذائي فضلا عن امنه الجسدي في شيء، فهو ينتظر الحلول التي تعيد له وطنه وكرامته ولا يكترث لكل الجدل الفكري والجدال العقيم.
ولو أمعنا النظر في الصراع السياسي والجدل الفكري بين العمال والمحافظين في انكلترا، وهي من اعرق الديمقراطيات المستقرة، لوجدنا ان الترجيح الشعبي لأحد الحزبين قائم على ما يطرحانه من برامج وسياسات خدمية للمواطن العادي، وليس ما يقدمانه من أفكار نظرية وايديولوجية لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا ما جعل كل من الحزبين يتنافسان على أصوات الناخبين غير المحازبين لأي منهما، لأن أصوات المحازبين مضمونة يمين ويسار، اما شريحة غير المحازبين وهي الأكثرية العددية فهم في الوسط، وذلك فرض على الحزبين الذهاب نحو الوسط ومع مرور الزمن لم يعد المراقب يشعر بأي فرق بينهما وتراجعت الأفكار والايديولوجيا لصالح الأفعال والسياسات وتلبية الاحتياجات.
فلماذا لا نتعلم الدروس ونستفيد من تجارب الآخرين، ولماذا تصر بعض نخبنا السياسية والفكرية على الخوض في جنس الملائكة فيما روما تلتهمها النيران وجنود هولاكو يعيثون في الأرض فسادا.
أيها السادة الإسلاميون والعلمانيون، إما ان تؤجلوا خلافاتكم وجدليتاكم البائسة والمكررة وتنخرطوا معا في البحث عن حلول لنكبة سوريا وشعبها، أو اتركوا السوريين داخل أسوارها يصارعون المستحيل بعيدا عن ضوضائكم وزوابع فناجينكم التي لا تلبث أن تهدأ لتهب عند كل صورة.