مقالات

صمت أمريكا المريب

لا أحد يستطيع أن ينكر أن الإدارة الأمريكية الجديدة تكلمت عن كل شيء تقريبا إلا القضية السورية. وفيما يخص المنطقة انصبت معظم التصريحات الأمريكية حول الملف النووي الإيراني، وضرورة إنهاء الحرب في اليمن. أما فيما يخص القضية السورية فلم ترد سوى تصريحات متفرقة لا ترابط بينها ولا دلالات لها. لذلك، صدر الحكم المبرم: لا وجود للملف السوري في أجندة إدارة بايدن.

عودة إلى الاتفاق النووي أم اتفاق آخر؟

غاب الملف السوري عن التصريحات الأمريكية لكنه تواجد بين السطور، فالإدارة الأمريكية لطالما صرحت أن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران سيتضمن قيودا على أنشطتها الصاروخية والحد من أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. وبالمختصر، يبدو أن الولايات المتحدة ومن خلفها الدول الغربية سيجبرون إيران على التراجع عن سياساتها السابقة، ولعل أهمها الانسحاب من سوريا والذي تلح إسرائيل عليه.

قناة العالم بالأمس تحدثت عن زيارة قام بها ضباط بالجيش البريطاني بينهم نائب القائد العام لقوة المهام المشتركة لعمليات التحالف الأميركي إلى قاعدة التنف في سورية، وحسب القناة المذكورة: سبب زيارة الضباط البريطانيين لقاعدة التنف هو لإعادة تفعيل غرفة عمليات “الموك” في البادية والجنوب السوري بحجة محاربة داعش، وأن الضباط البريطانيون ناقشوا مع جيش مغاوير الثورة المسؤول عن حماية قاعدة التنف إعادة تفعيل غرفة العمليات. وبعيدا عن مدى دقة الخبر، يبدو أن التخوف الإيراني من محاولة طرد بالقوة حاضر في النقاشات الإيرانية. والتخوف الإيراني لم يأتي من فراغ، فقد سبق ذلك تصريح للسيناتور الأمريكي “ويلسون” جاء فيه أنه بعد فشل سياسة أمريكا بالاعتماد على روسيا في إخراج إيران من سوريا ستضطر إسرائيل وبموافقة أمريكا لوضع مقاربة جديدة لإخراج إيران تتمثل في شن معركة برية من ثلاث مناطق للسيطرة على البادية والحدود العراقية السورية.

حتى الآن غير معروف إذا كانت هذه التصريحات والتحركات هي محاولة للضغط على إيران من أجل أن توافق على ما تنوي الولايات المتحدة إملاءه عليها ضمن بنود الاتفاق النووي، أم أنه مخطط فعلي سيصبح واقعا على الأرض في وقت قريب. ولكن الواضح أن وضع إيران في سوريا غير مستقر.

روسيا التي تمادت

أما روسيا، الحامي الآخر للنظام السوري، فقد تلقت تهديدات كثيرة من الرئيس الأمريكي “جو بايدن” سواء أثناء حملته الانتخابية أم بعد فوزه بالسباق الانتخابي، والضغوط الأمريكية على روسيا بدأت بالفعل من خلال بعض العقوبات والضغوط الدبلوماسية التي توجت بحملة من طرد الدبلوماسيين الروس وانحياز قوي لصالح أوكرانيا أجبر روسيا على سحب قواتها التي زجتها على الحدود الأوكرانية. وبالنسبة لسوريا، يبدو أن المقاربة الأمريكية كانت السماح لروسيا أن تتدخل لضبط الأمور في سوريا على أنها لاعب دولي يستطيع التخفيف من تداعيات القضية السورية على محيطها، ويخفف أو يحد من الصراع بين القوى الإقليمية على سوريا، والذي قد تؤدي نتائجه إلى خلل في التوازنات الإقليمية، لكن استخدام روسيا لسوريا كقاعدة تنطلق منها لبسط نفوذها في منطقة الشرق الأوسط قد فاجأ الولايات المتحدة وأزعجها في نفس الوقت، وقد ورد مثل هذا الكلام في تقرير لجنة الكونجرس الأمريكي عام 2019، وكذلك ورد على لسان أكثر من مسؤول أمريكي.

بالأمس، جاء عن البيت الأبيض: لا نريد التصعيد مع روسيا بل نريد علاقة مستقرة معها وسنحملها المسؤولية عن ممارساتها. والممارسات الروسية المقصودة كثيرة في المرحلة الماضية، ولا شك أن سلوكها الاستفزازي في سوريا يدخل ضمن تلك الممارسات المقصودة، ويبدو أن روسيا لها نفس الرأي، فمؤخرا وفيما يبدو نوع من المهادنة ومحاولة لتبريد الأجواء بدأت بعض وسائل الإعلام تنقل أخبارا عن بعض العروض الروسية المقدمة لتركيا حول المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تتسم ببعض المرونة غير المعتادة، وحسب المصادر التي نقلت هذه الأخبار أن روسيا تعرض على الجانبين التركي والأمريكي هدنة طويلة الأمد تشمل كافة المناطق السورية مع فتح للمعابر، وأن تكون تلك المعابر تحت إشراف كافة الدول النافذة في الملف السوري، وبتنفيذ من القوى المسيطرة على الأرض. هذا وتوقع البعض أن روسيا ستحاول الضغط من أجل تمرير خطتها الجديدة بقرار من مجلس الأمن الدولي، وذلك حين مناقشة تمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر الحدود.

هذا الكلام إن دل على شيء، فهو يعني أن روسيا في خطوة استباقية منها تسعى إلى المحافظة على ما لديها بعد أن كانت مطالبها ذات سقف أكثر ارتفاعا. كما أنه دليل على تخوف روسي من أن يمتد العقاب الأمريكي إلى تواجدها في سوريا.

الخائفون

لا شك أن المعارضة والثوار السوريين كانوا يمنون النفس بتصريحات أمريكية تحمل لهم بريقا من الأمل لحل قضيتهم التي طالت، ولا شك أنهم غير سعداء بهذا الإهمال للقضية السورية من قبل الإدارة الأمريكية. رغم ذلك، فالنظام السوري ينظر إلى هذا الصمت الأمريكي تجاه القضية السورية على أنه صمت مريب، وأغلب الظن أن النظام السوري في هذه الآونة يسيطر عليه خوف شديد، فالقراءة الإيرانية، والقراءة الروسية للنوايا الأمريكية ليست ببعيدة عنه، ولا يستغرب أن يكون النظام السوري – ضمن سياق الهلوسة التي تخلقها الحالة- قد قرأ المقاربة الأمريكية للقضية السورية والتي لم يصرح بها على الشكل التالي: إن القضية السورية تحل تلقائيا من خلال معالجة ملفي روسيا وإيران. أي، هو ينتظر مصير المشنوق الذي لا توجه ضربة إليه، بل يسحب الكرسي من تحت رجليه فقط.

ليس الصمت دائما دليل إهمال، فأحيانا يكون تريثا إلى أن يحين الوقت مع رغبة بعدم الإفصاح عن النوايا الحقيقية التي قد تعرقل مسارات أخرى. وحتى الآن، يبدو أن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لديه أسلوب دبلوماسي مميز، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تعامله مع الملف الروسي حتى الآن، إذ فجأة وبدون سابق إنذار تحول الرئيس الروسي الذي كان ماردا بالأمس إلى ما يشبه الحمل الوديع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى