مقالات

السوريون في الشمال وزلزال “كهرمان مرعش”

لا تمتلك الصفائح التكتونية التي تتناطح في أعماق الأرض حسا أو عقلا لتوجه طاقتها المزلزلة لأماكن خالية من البشر، أو لأماكن استطاع الإنسان فيها أن يشيد أبنية قادرة على تحمل الهزات. إنه اعتباط الطبيعة الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة فيضرب خبط عشواء.

عند الساعة الرابعة من صباح يوم الاثنين السادس من شباط 2023 سطر التاريخ في صفحاته المظلمة أن زلزالا عنيفا مصدره الجنوب التركي امتد بآثاره المدمرة إلى الشمال السوري ليحصد أرواح مئات السوريين ويدمر ممتلكاتهم وينشر الهلع والذعر في نفوس الناجين ملقيا بهم في زحمة الهول إلى الطرقات والساحات حيث كان البرد القارس بانتظارهم في درجات حرارة تلامس الصفر، مخلفا كارثة إنسانية بأقسى ما تعنيه كلمة كارثة من معنى، فما أن استقرت الأرض تحت أرجلهم حتى هرع السوريون إلى هواتفهم يتنقلون بين صفحات الأخبار ورسائل الاطمئنان على ذويهم ومعارفهم في المناطق المجاورة، وما أن تبين أن مركز الزلزال هو المناطق الجنوبية من تركيا حتى ازداد القلق والخوف، فمعظم العوائل في الشمال السوري لديها أبناء وأقارب وأصدقاء يقيمون بكثافة في المدن التركية الجنوبية، فتوزعت مشاعر الذعر والقلق بين من في الداخل ومن على الضفة الأخرى من الحدود؛ كل يريد أن يطمئن عن الآخر. إنه عنصر الفجأة والغدر الذي يصاحب الزلازل؛ فلا أحد يستطيع تذكر تفاصيل ما حدث من هول الحدث، لكن أحدهم لخصه بجملة معبرة: كأنه يوم القيامة.

إلى أن حل الصباح كانت صرخات الاستغاثة تنبئ بحجم الفاجعة، فلم تبق منطقة أو قرية إلا وأصابها الضرر، وتناقلت وسائل الإعلام صرخات المكلومين وأنين العالقين تحت الركام ومشاهد تنفطر لها الأفئدة، ومع الهزات الارتدادية التي لم تتوقف؛ أصبح الناس هيام على وجوههم، فانشغل البعض بتأمين المأوى لعائلته بعد أن أصبحت البيوت مصدر رعب لساكنيها، فبات البعض في العراء، وبعضهم بات في سيرته، والبعض الآخر حل ضيفا عند أقاربه من أهل الخيام، وانبرى آخرون لمساعدة رجال الدفاع المدني ذوي الإمكانات المحدودة في نجدة المستغيثين، وضاقت الدنيا بمن علم أن أحد أقاربه أو أصدقائه قد دمر الزلزال منزله، فالأنفاس محبوسة والقلوب ترتجف والألسنة لا تكف عن الدعاء. تمر الساعات سريعة، ومع كل ساعة هناك تحديث جديد لأعداد الضحايا والمصابين، وهناك نعوات ونعوات جديدة، قبور ودفن، وتعزية، وهناك ألم يعتصر، إنه غدر الطبيعة وقد خلف كارثة.

تعرف هيئة الأمم المتحدة الكارثة على أنها “حالة مفجعة يتأثر من جرائها نمط الحياة اليومية فجأة ويصبح الناس يعانون من ويلاتها ويصيرون في حاجة إلى حماية، وملابس، وملجأ، وعناية طبية واجتماعية واحتياجات الحياة الضرورية الأخرى”. يضيء التعريف على جانب مظلم آخر من المأساة جعل معاناة الناس في هذه المناطق أشد قسوة، فتلك الاحتياجات الإنسانية تفترض استنفار المجتمع الدولي لتقديم المساعدات الفنية واللوجستية لسكان هذه المناطق لمواجهة ما حل بهم من كرب، خاصة وأن هذه المناطق تؤوي الملايين من الفارين من بطش النظام السوري الذي نكل بهم، وهم يفتقدون لأدنى مقومات الدولة من بنية تحتية ومؤسسات حكومية فاعلة. والأهم، أنهم يفتقدون الآليات الثقيلة والمعدات اللازمة لمواجهة هكذا نوع من الكوارث. لقد أعادت الكارثة إلى الواجهة من جديد مشاعر اليتم والخذلان التي لطالما عانى منها السوريون.

في محاولة للتصدي لمهمة تعجز أمامها الدول؛ شباب ورجال بارك الله بهمتهم وصلوا الليل بالنهار في محاولات حثيثة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تجمهروا بأعداد غفيرة حول جبال من الركام ليتبين لهم أن الوسائل البدائية التي بحوزتهم ليست كافية لإنجاز المهمة؛ في موقف يدعو إلى اليأس والشعور بالعجز لم ييأسوا؛ فاستصرخوا أقرانهم  واستنجدوا بمعدات لقص الحديد وأدوات لثقب الاسمنت وأنقذوا من أنقذوا، وانتشلوا من تحت الركام بعض الجثامين ومازال البعض الآخر ينتظر، وإلى أن تصل المعدات اللازمة لإزالة الأنقاض التي يصعب إزالتها من دون الاستعانة بالآليات الثقيلة؛ ستبقى المخاطر مستمرة مع تخوف من كارثة أخرى بيئية أو صحية. فرغم أن أصحاب النخوة لم يبخلوا بمال أو جهد، إلا أن حجم الكارثة يحتاج لموارد أكبر.  

لم تنته القصة بعد، لكنها أنهت أقسى فصولها، سيسجل التاريخ في صفحاته السوداء أن السوريين قتلوا مرتين، مرة على يد نظام مجرم، ومرة على يد زلزال أحال بيوتهم إلى مقبرة، وفي المرتين ما وجدوا لحالهم من بواكيا.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى