مقالات

خطورة تأثير الإعلام “إعلاميونا.. نيران صديقة، إعلاميوهم: تضليل متعمد!”

يخطئ، بل يتوهم من يظن أنه قادر على الوصول إلى الحقيقة من خلال تقبله لكل ما يرد في وسائل الإعلام؛ فبالرغم من أن العلاقة بين الحقيقة والإعلام هي علاقة جدلية تبادلية، حيث أنه في الوقت الذي تسهم فيه الحقائق في صناعة إعلام مميز، يمكن للإعلام أن يكشف الحقائق وينشرها، أو يغيرها، أو ينقلها من مكانها، أو يوظفها في سياقات غير حقيقية. فللإعلام مقدرة على تدوير الحقائق لتصب في مصلحة جهة ما أو دولة ما، من خلال التلاعب بالعقول. حتى تلك العقول التي يعتقد أصحابها أنها عصية عن التأثر العميق الذي يحدثه الإعلام الموجه على خيارات وأفكار ومواقف وقناعات الناس. وهذا لا يعني أن التضليل والخداع عمل تمارسه وسائل الإعلام على مدار الساعة، كما أنه لا يعني أن وسيلة الإعلام المخادعة تفعل ذلك في كل ما تقدمه للجمهور، فلا بد أن تتسلل الأخبار المضللة بصحبة مجموعة لا بأس بها من الأخبار أو المعلومات المنقولة بنزاهة تامة؛ باختصار: إنه دس السم في العسل. هذا فيما يخص وسائل الإعلام المحترفة، لكن السم أحيانا يقدم على أنه دواء؛ فقط لأن الذي يقدم الجرعة لا يمتلك الخبرة لتمييز السم من الدواء.

مع التطور الهائل الذي شهده العالم في حقل الاتصالات وارتفاع مستوى الذكاء الإنساني أصبح التضليل والخداع الذي تستخدمه وسائل الإعلام بحاجة إلى أساليب ومهارات أكثر دقة وأكثر تعقيدا، ولعل أكثر تلك الأساليب استخداما في هذا المضمار هو الإيحاء؛ كأن تذكر إحدى وسائل الإعلام معلومة مركزة مصنوعة بدقة وتم اختيارها بعناية فائقة للإيحاء للمتلقي بما يرغب صانع الخبر أن يوصله من رسائل. ويستمد الإيحاء تأثيره الفاعل عن طريق سيطرته على العقل الباطن، حيث يتقبل الشخص أفكارا محددة عن طريق رسائل مدروسة توصل إلى الهدف المتوخى، وهو ما يساعد على حل العديد من المشكلات التي تقف حائلا بين الناس وبين الشعور بالرضا. فالمتحكم بالأشخاص هي الأفكار المستقرة في عقولهم، وخاصة تلك التي تنشرها وسائل الإعلام، فهي التي توحي لهم بالكثير من التصرفات والاستجابات. فالمؤثر الأكبر فينا ليس الأشخاص والمؤسسات والحكومات، بل الأفكار والعقائد التي ينشرها الإعلام. ويستطيع خبراء الإعلام تمرير ما يريدونه إلى العقل الباطن عن طريق إضعاف العقل الواعي. أي، العقل المسؤول عن تلقي المعلومات بالدرجة الأولى، ليمررها إلى العقل الباطن إن وافق عليها. فحسب علماء النفس لكل إنسان في عقلة شقين: العقل الواعي والعقل الباطن (اللاواعي)، والعقل الواعي هو المسؤول عن تلقي المعلومات بالدرجة الأولى، فإن  وافق عليها مررها إلى العقل الباطن الذي يعتبر بمثابة المخزن للمعلومات من وقت كون الإنسان جنينا إلى يومه الذي هو فيه، والعقل الباطن هذا؛ هو المسؤول عن المشاعر والدوافع والأفعال اللاإرادية، وهو أيضا؛ يقبل كل شيء على أنه حقيقة لمجرد أن يمر عبر العقل الواعي. لذلك، فإضعاف العقل الواعي هو الوسيلة الأكثر نجاعة لتمرير المغالطات والأكاذيب والأضاليل لعقل المتلقي، وهي مهمة أخرى تكفلت بها وسائل الإعلام بالتعاون مع جهات أخرى.

ومما يضعه خبراء التضليل في حسبانهم عند صياغة المعلومات المضللة هوما يعرف بالانحياز التأكيدي لدى البشر، وهو أحد أهم أنواع الانحياز المعرفي وأكثرها انتشارًا، ويشير إلى مَيل الناس نحو سماع المعلومات التي تؤكِّد أفكارهم المُسبقة أو فرضياتهم وقناعاتهِم فقط بغض النظر عن كونها معلومات صحيحة أم لا، وكنتيجة لذلك فإنهم يجمعون الأدلة ويستحضرون المعلومات من الذاكرة بشكل انتقائي ليؤكِّدوا صِحة أفكارهم بصورة متحيِّزة، ويتجاهلون البحث وراء المعلومات التي قد تُضعِف تلك الأفكار أو تُعارضها. والانحياز التأكيدي يظهر بصورة واضحة في القضايا المرتبطة بالعاطفة تحديدًا، وفي الجدليات المُتعلِّقة بالقناعات الراسخة لدى الأشخاص، ويؤثِّر على التعاطي مع المعلومات بشكل سليم.

 للوهلة الأولى يبدو الخبر التالي لمن يقرؤه أنه أنموذجا للتضليل الإعلامي الذي يستخدم فن الإيحاء المعتمد على فكرة التحيز التأكيدي، كما يمكن القول: إنه معلومة مركزة مصنوعة بدقة وتم اختيارها بعناية فائقة للإيحاء للمتلقي بما يرغب صانع الخبر أن يوصله من رسائل:

“أكدت مصادر صحفية إجراء الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا مفاوضات سرية على أعلى المستويات بخصوص سوريا، مشيرةً إلى أن الجانبين توصلا لاتفاق. وأكدت صحفية “النهار” اللبنانية نقلاً عن مصادر وصفتها بـ”واسعة الاطلاع” أن اتصالات على أعلى المستويات جرت الشهر الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا بخصوص فتح مسار “التسوية” بين النظام السوري وإسرائيل”.

مبدئيا، لا يمكن قراءة الخبر إلا على الشكل التالي: إنه خبر يثير الشكوك، وربما هو محاولة من الجهة التي صاغت الخبر، أو صاغته ثم سربته على أساس أنه معلومة مصدرها جهات واسعة الاطلاع لإقناع المتلقي عن طريق الإيحاء – وهو الشعب السوري بهذه الحالة – بالعدول عن بعض الأفكار الخطيرة التي بدأت تجد لها سبيلا إلى عقول أغلب السوريين من الجهتين؛ مستغلا الظروف المكانية والزمانية لإقناعهم بتبني أفكار تعود عليه بالنفع. هذا الخبر لا يعدو عن كونه تضليل إعلامي يهدف إلى عكس الوقائع وقلب الحقائق، ويسعى إلى توجيه عقل المتلقي من خلال استهدافه بحرب نفسية لإحداث تأثير عليه، بواسطة الترويج لمعلومات لا أساس لها، تهدف في نهاية المطاف إلى أن يقوم المتلقي بإصدار أحكام ما في قضية ما. فهو يخاطب الجماهير وكأنّه يجيبهم عن تساؤلاتهم الملحة حول ما تخبئه لهم الأيام القادمة أمام هذه الضائقة التي تمر بها البلاد مع تزايد الضغوط الأمريكية وتفاقم الحالة المعيشية وتصاعد أزمات المواد الأولية والضرورية لمتطلبات الحياة (خاصة المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري)، وإجابته تلك تتناسب مع طبيعة تفكيرهم، وتتعامل بشكل سليم مع المبادئ الفكرية التي تربّوا عليها.

يعلم الجميع أن النسبة الأكبر من السوريين يعتقدون أن إسرائيل وملحقاتها يتحكمون بأنفاس العالم، وهم الآمر الناهي في القضايا المصيرية. وبالتالي فمجرد التفاهم مع إسرائيل ونيل رضاها هو المفتاح لحل كل العقد، والخبر يوحي بأن الأمر قد تم. وعليه، فعلى المؤيد أن يشعر بنوع من التفاؤل والتخلي عن حالة اليأس والقنوط التي بدأت تسيطر على تلك الشريحة من السوريين. وعلى الجهة المقابلة، ربما يسود بعض التفاؤل بأن النظام في أسوأ حالاته وهو قد لا يصمد كثيرا أمام هذه الضائقة حيث يبدو عاجزا أمامها. بالنسبة لهؤلاء، للمتفائلين، عليهم وضع حد لتفاؤلهم واستبداله بحاله من اليأس والقنوط. إذن، فمقدرة إسرائيل الخارقة وما ينبني عليها من أفكار وتخيلات؛ هي الفكرة الرئيسية وهي إحدى سمات تفكير المستهدفين، والقضية التي ينتظر من المتلقين (السوريون) أن يصدروا أحكاما بشأنها هي الضائقة التي يمر بها النظام وأتباعه، والمتوقع تصدير مشاعر الكآبة إلى الشارع الثوري واستيراد الأمل منه.

الملفت للانتباه أن الخبر نقله عن الصحيفة موقع محسوب على الثورة، والصحيفة معروفة بتوجهاتها المعادية للنظام السوري، وكذلك كاتب المقال الذي تحول مقاله إلى خبر. وهو ما يدعو إلى: إما التشكيك بكل هؤلاء وهو أمر بعيد عن المنطق، وإما اعتبار من نقل الخبر من أولئك الذين تمت الإشارة إليهم في المقدمة على أنهم لا يستطيعون تمييز السم من الدواء. وفي هذا ما ينسف كل ما جاء سابقا في هذا المقال حول الحرفنة في صناعة الخبر والأهداف المتوخاة منه، إذ لا يعدو الأمر عن كونه أحد الأخطاء الفادحة الناتجة عن ممارسة الإعلام في زمن الحرب من قبل هواة، لكن هذا لا يغير في الأمر شيئا فالنتيجة واحدة، سواء كان الخبر مختلقا من قبل مؤسسات الدعاية التابعة للنظام السوري، أم كان نتيجة سوء تقدير من جهة إعلامية محسوبة على الثورة، وتبقى القراءة التي قدمت حول مفعول الخبر على الجمهور هي هي.

مع افتراض حسن النية، فأغلب الظن أن كاتب المقال كان يقصد الإساءة إلى النظام السوري، وكذلك الصحيفة التي نشرت المقال، بالإضافة إلى الموقع الذي حول ما جاء في المقال إلى خبر، ولكن الذي حصل أن البعض تأثر بالخبر سلبا كما هو متوقع، وتبين ذلك من خلال الإشارة إلى الخبر من قبل هؤلاء. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ضعف الخبرة وغياب المهنية والعشوائية في نقل الأخبار كانت نقاط ضعف عانت منها معظم الوسائل الإعلامية المحسوبة على الثورة. هذا بالإضافة إلى أن كثرة المواقع والوسائل الإعلامية المحسوبة على الثورة السورية دفعت بالبعض إلى التنافس في كسب أكبر عدد من المتابعين، ولعل ذلك يدعو إلى الحديث عن الأسباب التي تدعو البعض لنشر الأخبار الكاذبة رغم معرفته بضعف مصدرها وأنها موضع شك، فالمعلومات تشير إلى أن للأخبار الكاذبة شعبية لدى الجمهور، وهو ما قد يكون بمثابة الإغراء لدى بعض الناشرين.  فقد أجرى المعهد الأمريكي “ماساتشوستس” للتقنية Massachusetts Institute of Technology دراسة شملت حوالي 130 ألف خبر كاذب وإشاعة على موقع “تويتر”، وتوصلت الدراسة التي أشرف عليها باحثون متخصصون إلى أن الأخبار الزائفة تنتشر بصورة أسرع كثيراً من تلك الأخبار الحقيقية، وأن الناس يبحثون عنها وأن مستخدمي تويتر أعادوا تغريد الأخبار الكاذبة بصورة مبالغ فيها، وذلك ربما يعود إلى أن الأخبار الزائفة عادة ما تكون غير مألوفة.

 رغم ذلك، ليس فيما سبق دليل أو برهان على أن الخبر كاذب أو مختلق، إنما هو افتراض بأن الخبر مختلق، وتصور لبعض الأهداف والنتائج المتوقعة. من هنا، لا بد من التعريج على الأسباب التي دفعت باتجاه الشك بصدقية الخبر. ولعل أولها هو المصدر الذي نُقِل الخبر عنه. أي، صحيفة النهار اللبنانية، فعندما تمت العودة إلى جريدة النهار تبين أن هذا الكلام ورد في مقال رأي ولم يرد كخبر، ومن المؤكد أن مقالات الرأي لا تعتبر مصدرا موثوقا للأخبار، كما أن ما جاء في المقال ليس أكثر من صيغة تثير الشكوك لا أكثر ولا أقل. أما السبب الثاني، فهو ما جاء في صيغة الخبر بأنه نقل عن مصادر واسعة الاطلاع، وهي صيغة يعتبرها خبراء الإعلام “إلى جانب عبارات مثل: أكدت الدراسات، نقلا عن مصادر موثوقة، أكدت مصادر مطلعة” أحد مؤشرات الأخبار المزيفة. وأخيرا، الخبر ورد في سياق معاكس لاتجاه الأخبار في هذه الفترة، فهي تشير بشكل ملحوظ إلى تصاعد الضغوط وتباين المواقف.

أخيرا، وبالمختصر، إن التعاطي مع الإعلام مسألة بالغة الحساسية، سواء من قبل المتلقي أو من قبل الإعلامي، وبالنسبة إلى الإعلامي يعتبر نقل الخبر مسؤولية أكثر من كونه مهنة، فالإعلام سلاح خطير يصلح للدفاع عن النفس، ويصلح للهجوم، وقد يقتل أو يؤذي صاحبه إن لم يكن من يدير ويستخدم هذا السلاح على درجة عالية من الكفاءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى