مقالات

قرار “كوبلينز”: خطوة أولى نحو العدالة

حكمت محكمة “كوبلينز” الألمانية على عنصر المخابرات السوري السابق إياد الغريب، البالغ من العمر 44 عاما، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف بتهمة الاشتراك في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ إثر ثبوت قيامه بتعذيب معتقلين في فرع 251 التابع لأجهزة أمن النظام عام 2011.

وتحدث الادعاء أمام المحكمة عن مساعدة المذكور في اعتقال متظاهرين عام 2011، وتعرضهم لاحقا للتعذيب والقتل. حيث شارك باعتقال ما لا يقل عن 30 متظاهراً في مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية، أثناء مشاركتهم في الاحتجاجات التي اندلعت ضد نظام الأسد، وذلك في أيلول وتشرين الأول عام 2011.

وتعد هذه أول محاكمة من نوعها بشأن أعمال وحشية منسوبة لشخص يعمل ضمن جهاز مخابرات نظام الأسد.

كما يخضع للمحاكمة سوري آخر، وهو العميد أنور رسلان، البالغ من العمر 58.  الذي يُشتبه في تورطه بتعذيب نحو 4000 شخص خلال عامي 2011-2012، كما وُجهت إليه 58 تهمة بالقتل والاغتصاب والاعتداء الجنسي. ويواجه تهمة تتعلق بمسؤوليته عن سجن “الخطيب”، التابع لإدارة المخابرات العامة بدمشق، والمعروف باسم “الجحيم”، وإذا أُدين، فسوف يواجه عقوبة السجن مدى الحياة.

وكان الغريب ورسلان قد هربا من سوريا، وحصلا على حق اللجوء في ألمانيا، بيد أن السلطات ألقت القبض عليهما عام 2019.

وشملت الأدلة المقدمة ضد المتهمين آلاف الصور التي سربها المصور المنشق العسكري المعروف باسم “قيصر”.

وتحقق ألمانيا، بالإضافة إلى هذين الرجلين، مع عشرات المسؤولين السوريين السابقين المتهمين بارتكاب أعمال وحشية.

تمثل محاكمة إياد الغريب وأنور رسلان، التي بدأت في نيسان 2020، بالنسبة لبعض السوريين، فرصة نادرة لتحقيق العدالة لمجتمع شهد حدوث أعمال وحشية لا حصر لها. هذه المحاكمة تمثل خطوة أولى نحو العدالة التي يطمح لها السوريون.

لقد ارتكبت الكثير من الجرائم الوحشية في سوريا، ومنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، هذه الجرائم تُعتبر جرائم ضد الأمن والسلم الدوليين، ولذلك فإن محاكمة مرتكبي هذه الجرائم ستساعد على إعادة الأمن إلى سوريا، ومع ذلك فإن تحديد المحكمة المختصة لمحاكمة هؤلاء المجرمين لم يكن أمراً سهلاً، ويعود ذلك إلى عدة أسباب:

فمن ناحية أولى: لا يمكن الاستعانة بالمحكمة الجنائية الدولية، المختصة بمحاكمة مرتكبي الجرائم الجماعية (كالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب)، لمحاكمة مرتكبي الجرائم في سوريا، لأن سوريا غير منضمة إلى معاهدة روما لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية، ومع ذلك يمكن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية بقرار من مجلس الأمن، وهو ما اقترحه منذ تموز 2012 المفوض الأعلى لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إلا أن حق النقض (الفيتو) من قبل الدولتين الدائمتي العضوية (روسيا والصين) أعاق ذلك أكثر من مرة.

ومن ناحية ثانية، لم يكن ممكناً تشكيل محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا، لأن هذا الأمر يحتاج إلى موافقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهذه الجمعية تضم كل بلدان المجتمع الدولي، وقسم منها يعارض أي قرار ضد النظام السوري بسبب تحالفه معه، وقد حاولت الجمعية العامة للأمم المتحدة القيام بخطوة فيما يخص الجرائم المرتكبة في سوريا عندما اعتمدت في /21-12-2016/ قراراً بتشكيل “لجنة دولية محايدة ومستقلة مهمتها التحقيق في الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في سوريا منذ آذار 2011، والمساعدة على محاكمة الأشخاص المسؤولين عنها”، وبدأت اللجنة المذكورة في عملها وما زالت مستمرة. وقد اعتبر بعض فقهاء القانون الدولي أن تشكيل لجنة التحقيق الدولية يشكل خطوة في طريق تشكيل محكمة خاصة بالجرائم المرتكبة في سوريا، إلا أن الواقع يدل أن عمل اللجنة المذكورة ما زال ضعيفاً ومحدوداً واكتفت فقط بإصدار تقارير اتهمت فيها مختلف الأطراف في سوريا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وكانت هذه التقارير وصفية ليس أكثر ولم تكن مدعومة بأدلة أو مقترنة بجزاءات.

لذلك، تبدو إمكانية الرجوع إلى مبدأ (الاختصاص العالمي أو الولاية القضائية العالمية) لمحاكم دول أخرى، الذي يسمح لها بملاحقة مرتكبي الجرائم الوحشية في سوريا وسيلة لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا ممن فروا منها ولجؤوا إلى دول أوربية وأمريكية، كما حصل في قضية إياد الغريب، حيث لجأ المدعون إلى تطبيق مبدأ “الولاية القضائية العالمية” الذي يسمح للمحاكم الألمانية بمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة (كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) الموجودين على الأراضي الألمانية بغض النظر عن جنسيتهم ومكان حدوث الجرائم.

ورغم كون مبدأ (الاختصاص العالمي) لا يعطي لمحاكم هذه الدول إلا صلاحية محدودة، لأن الدول لا تستطيع أن تلاحق أو تحاكم إلا الأشخاص المتهمين بارتكاب الجرائم الموجودين على أراضيها، ولا يمكنها إحضار المتهمين الموجودين خارج أراضيها إلا بموافقة الدولة التي يقيمون فيها، وإلا كان في ذلك تدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأخرى، إلا أن الخطوة الأولى التي بدأتها المحاكم الألمانية مع قرار (كوبلنز) بسجن إياد غريب، ربما يشكل بداية لمجموعة قرارات لاحقة بحق مرتكبي جرائم الحرب من السوريين الموجودين في أوربا. وربما نشهد تعاوناً بين هذه الدول في إجراءات التحقيق والمحاكمة في هذا المجال، لا سيما بعد أن بدأت عدة دول أخرى غير ألمانيا (كفرنسا، النرويج، بلجيكا، والسويد) بمحاكمة الأشخاص الموجودين على أراضيها من اللاجئين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، والأمر الآن متوقف على سرعة هذه الدول في نظر ملفات الادعاءات المرفوعة أمامها وإصدار مذكرات توقيف بحق المتهمين، وربما سيشجعها القرار الأول الصادر من محكمة “كوبلنز” على تسريع إجراءاتها، كما أن هذا القرار الذي يشكل سابقة قضائية، سيكون بمثابة عصا تهديد تؤرق مضاجع مجرمي الحرب السوريين الموجودين في دول العالم المختلفة، لأنهم كانوا يظنون أنهم بحصولهم على اللجوء في دول أوربية قد أخفوا جرائمهم، لكن القرار الصادر بحق إياد الغريب سيجعلهم في خشية مواجهة المصير ذاته، كما سيشجع السوريين الموجودين في أنحاء العالم المختلفة على التبليغ عن مجرمي الحرب لدى الجهات المختصة. وهنا يجب أن تأخذ وسائل الإعلام ومراكز حقوق الإنسان المنتشرة في مختلف بلدان العالم دورها في التعرف على هؤلاء المجرمين والإبلاغ عنهم.

بالنتيجة: يشكل قرار محكمة “كوبلنز” الألمانية بداية لمحاكمة كل مجرمي الحرب من السوريين الموجودين خارج سوريا، على أمل الوصول لاحقاً إلى محاكمة نظام الإجرام بأكمله محاكمة عادلة. وكما قال “المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية‏” الذي يترأسه المحامي أنور البني في بيان له إن “القرار وإن كان خاصاً بمتهم واحد، لكن حيثيات قرار الاتهام ومطالبة النيابة العامة تطال نظام الجريمة المنظمة والممنهجة الذي يحكم سورية بالحديد والنار والخوف والإرهاب. إن تجريم المتهم إياد والحكم عليه لم يكن بسبب قيامه بجريمة منفردة من تلقاء نفسه بل بسبب كونه جزءاً من آلة جهنمية منظمة وممنهجة وبأوامر عليا لاعتقال المدنيين السلميين وإخفائهم قسراً وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب وإخفاء جثثهم بمقابر جماعية وبطريقة مهينة جدا، وهذه المنهجية تخضع لسلسلة أوامر وقيادة تصل لرأس هرم الجريمة الممنهجة في سورية مع كل أركانه”.

وهكذا: إذا كان قرار محكمة كوبلنز بحق إياد الغريب لا يحقق العدالة بأكملها فإنه يحقق بعض العدالة، على أمل كونه بداية لسلسلة قرارات قادمة مماثلة أو أشد تطال مجرمي الحرب من رجالات النظام السوري وأعوانه، ليعلموا أنهم لن يفلتوا من العقاب ولو كانوا خارج البلاد وبعد مضي سنوات على اقترافهم لجرائمهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى