إدارة الضعف: فقه الواقع
يقال أن الإدارة هي الخط الفاصل بين النجاح والفشل، وقد أثبتت التجارب صدق هذه المقولة إلى حد بعيد، وأصبح الكثيرون يربطون تقدم أو تخلف الأمم بتقدم أو تخلف الأنظمة الإدارية فيها. وأصبحت الإدارة علما قائما بحد ذاته كأحد فروع العلوم الاجتماعية، بل وأصبح له تخصصاته التي تكاد لا تعد لكثرتها، فبالإضافة إلى بعض التخصصات المعروفة أصبحنا نسمع عن إدارة الابتكار، وإدارة التفاعل البشري، وإدارة التوقعات، وإدارة القيمة المكتسبة، وإدارة المواهب، وهكذا…
خارج نطاق التخصصات العلمية أصبح الكثيرون يستخدمون كلمة إدارة في الحياة اليومية للتعبير عن حالة معينة، كأن يقال عن رجل دخله مقبول لكنه مفلس دائما؛ إنه ليس لديه إدارة. بمعنى أن حياته فوضوية غير منظمة، فالإدارة هي عملية تحقيق الأهداف المرسومة بالاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وفق منهج مُحدّد، وضمن بيئة معينة. والإدارة وهي أيضًا عملية التخطيط والتنظيم والتنسيق والتوجيه والرقابة على الموارد المادية والبشرية للوصول إلى أفضل النتائج بأقصر الطرق وأقل التكاليف المادية.
ضمن السياق ذاته. أي، خارج نطاق التخصصات سنطلق مصطلحا إداريا ربما لم يتطرق إليه أحد من قبل، هو “إدارة الضعف”، وفي المقابل يمكن أن نتحدث عن “إدارة القوة” لنضرب مثالا شديد الوضوح يتمثل في الإدارة الفاشلة للقوة من قبل حكومتي كل من اليابان وألمانيا، ومن ثم الإدارة الناجحة للضعف الذي أعقب القوة، إذ خرجت الدولتان مدمرتان مهزومتان من الحرب العالمية الثانية، بل وانتهت بهما الحال إلى دولتين محتلتين. وبالتالي؛ دولتان ضعيفتان منهكتان تثيران الشفقة. إلا أن الإدارة الناجحة لحالة الضعف التي نجمت عن الإدارة الفاشلة للقوة التي كانت كلتا الدولتان تتمتعان بها؛ أعادت الدولتين إلى مجموعة الدول المتقدمة.
إذن، بعدما أصبح المقصود بإدارة الضعف واضحا، أصبح بإمكاننا القول: إن كل ما نحتاجه نحن السوريون فريقا ماهرا في إدارة ضعفنا بعيدا عن التهور والحماقة، فالضعف تجربة مروعة. العقلاء يخرجون منها أقوياء، ويخرج منها الحمقى فاقدي كل شيء. ولا تختلف الحماقة عن الخيانة في النتيجة، فكلاهما تؤديان إلى نتيجة واحدة: الهزيمة النكراء. وليست مهمة هذا الفريق أن يصنع من سوريا ألمانيا أخرى أو يابان أخرى، فالمثال كان من أجل توضيح المقصود بمصطلح “إدارة الضعف” وليس من أجل استنساخ التجربة، فالقياس هنا مختلف والظروف مختلفة.
أهم ما تحتاج إليه إدارة الضعف هو الاعتراف بالضعف أولا، ومن ثم المقدرة على تحديد أي مستوى من الضعف نحن فيه، فالضعف والقوة لهما درجات ومستويات. لذلك، فالمقدرة على تحديد الموقع الحقيقي في السلم التراتبي للقوة والضعف يعتبر الخطوة الأولى للنجاح في “إدارة الضعف”، فالإنسان يتخذ بعض قراراته على ضوء ما يعتقد أنه يمتلك من قوة، فإذا ظن أنه على درجة من القوة أكثر مما يتمتع به على أرض الواقع قد يتخذ قرارات تودي به إلى التهلكة. أما إن اعتقد أنه أضعف مما هو علية قد يتخذ قرارات يغلب عليها اليأس والاستسلام. من هنا، تكون الخطط المرسومة تتسم بالعقلانية وتبتعد عن الطوباوية والخيال، فتحقيق الأهداف المرسومة يكون من خلال واقعية الأهداف، والاستخدام الأمثل للموارد المتاحة يكون على أساس المعرفة الحقيقية لتلك الموارد وليس عن طريق تخيلها أو تضخيمها.
تحيلنا واقعية الأهداف إلى مفهوم آخر هو مفهوم النجاح، فالنصر أو النجاح مفهوم نسبي يختلف من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى حالة، ومن موقف إلى موقف. فعلى سبيل المثال، في البطولات الرياضية الكبيرة مثل كأس العالم لكرة القدم، بعض الدول تعتبر أن مجرد تأهل فريقها إلى كأس العالم إنجاز كبير بغض النظر عن نتائج الفريق في البطولة والتي تكون متواضعة في أغلب الأحيان بالنسبة للفرق التي تأهلت للمرة الأولى. في الطرف الآخر، تنظر الدول التي تمتلك فرقا معروفة وقوية إلى كل ما هو دون الفوز بالبطولة فشلا حتى وإن حل فريقها ثانيا. كذلك الأمر في الدراسة، فالبعض، حسب ظروفه، قد يرى أن استمرار ابنه في الدراسة نجاح يستحق الثناء، بينما يرى آخرون أن ابنهم أو ابنتهم قد فشل في دراسته لأنه لم يحصل على العلامة التي تؤهله للدراسة في أعلى الفروع العلمية. بهذا المعنى، عند المقدرة على تقدير الموقف بدقة يمكن القبول بسقف آخر للنصر يختلف عن السقف الذي تم طرحه في ظروف مغايرة.
ليست إدارة الضعف شيئا آخر غير الواقعية والعقلانية وفقه الواقع، وكل ما تحتاجه أن يسند الأمر لأهله |