تداعيات الصراع في الشرق الأوسط: ملامح التغيير
رغم تعارض الآراء والتخمينات حول كون عملية طوفان الأقصى قد تمت بعلم إيران أم بغير علمها؛ إلا أن القول الأرجح في هذه القضية: إن حماس لم تخبر أي جهة بهذه العملية، وهي نتيجة لذلك أدخلت ما يسمى بمحور المقاومة في مأزق خطير لن يخرج منه سالما.
المبادر الأول
عندما تبادر دولة ما أو منظمة ما لافتعال نزاع مسلح وهي تضع بالحسبان أن التحاق الحلفاء بها أمر مؤكد، لا تلبث أن تصاب بخيبة أمل عندما لا يحدث ذلك، وهذا ما حصل مع دول العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. يقال وقتها إنه لم يكن لدى البريطانيين أدنى شك بأن الولايات المتحدة سوف تنضم إلى مجموعة الدول المعتدية، أو أنها ستدعمهم سياسيا كأدنى حد، لذلك فلا داعي للتشاور معها لأن كل ما يحتاجه الامر هو القيام بدور المبادر الأول، لكن الذي حصل أن الولايات المتحدة وقفت ضد الحرب وطالبت دول العدوان بالانسحاب، وهذا ما حصل.
رغم الفوارق البسيطة بين الحالتين إلا أن الجوهر لم يختلف، فقد أخطأت حماس عندما اعتقدت أن قيامها بدور المبادر الأول كفيل بجر “محور المقاومة” للانخراط في النزاع الذي قد يحصل كأحد السيناريوهات المتوقعة بعد تنفيذ العملية. لكن حماس خُذلت من قبل حلفائها كما خذلت دول العدوان الثلاثي، وفشلت فكرة المبادر الأول مرة أخرى. أما بخصوص الموقف الأمريكي من العدوان الثلاثي الذي يبدو أنه أكثر تطرفا من الموقف الإيراني تجاه حماس، إلا أن الخذلان الذي تعرضت له حماس أشد إيلاما من الخذلان الذي تعرضت له حماس.
ردها علي إن استطعت
هكذا هو حال الضعيف دائما؛ عندما يخذل ممن هم أقوى منه لا يتجرأ على البوح بما يعتلج في صدره حفاظا على بعض الفتات الذي مازال يلقى له، وسوف يأتي اليوم الذي يستطيع فيه بعض قادة حماس القول بأن خذلان محور المقاومة لهم قد أدمى قلوبهم. ظن الإيرانيون أنهم يستطيعون الخروج من هذا المأزق الذي وضعتهم فيه حماس بممارسة بعض الضغوط من أجل وقف الحرب، والإيعاز لبعض أذرعهم بإزعاج إسرائيل ضمن قواعد اشتباك منخفضة السقف لم تقنع أحدا بجدواها رغم تفرغ جيش كامل من المطبلين لمحاولة جعل تلك المناوشات تبدو أضخم بكثير مما هي عليه.
الملفت في الأمر أن رد “نتنياهو” كان موغلا في الإهانة والإذلال، فقد ضرب بعرض الحائط كل ما يمكن أن يسمى بقواعد الاشتباك، متجاهلا كل الضغوط الأمريكية والغربية، وكأنه يقول لكل هؤلاء: أنتم متوهمون بما يمكن أن يحصل عندما تهان إيران، لقد خدعتكم وخدعت الجميع بمدى قوتها بينما هي لا تعدو عن كونها نمر من ورق. وهكذا بدأ الإسرائيليون يتفننون بإهانة إيران وإهانة أذرعها وأتباعها، فكانت كل ضربة أشد قسوة وإيلاما من سابقاتها، حيث بدا المشهد وكأننا أمام متعجرف صلف يقول لخصمه: من أنت أيها الوضيع لتحدد قواعد الاشتباك. ردها علي إن استطعت.
محور الدجاج
نتيجة للإمعان في التحدي حُشر المحور في الزاوية ولم يعد أمامه سوى خيارين: إما السقوط خوفا أو السقوط حربا. إما الهزيمة النفسية وإما الهزيمة المادية، فبعد مقتل إسماعيل هنية في طهران كان لا بد من رد إيراني يحفظ ماء الوجه، أو قليلا منه، لكن حجم التهويل والتخويف الذي بث في نفوس قادة إيران أوصلهم لمرحلة من العجز والتخبط مثيرة للشفقة. رغم ذلك، يعتقد الكثيرون أن التغاضي عن صفعة هنا وإهانة هناك يندرج ضمن إطار الحكمة، أو الانحناء للعاصفة، وأحيانا يعطى هالة إعلامية براقة كأن يقال: صبر إستراتيجي.
لكن الإهانات عندما تتجاوز سقفا معينا (كما تفعل إسرائيل الآن) ويمعن الطرف الآخر في الإهانة ويتفنن بها؛ يصبح الامتناع عن الرد هو سلوك يخرج من إطار التوصيف اللبق إلى إطار الوسم بالجبن والتخاذل، أو ما يسمى وفق نظرية المباريات في العلاقات الدولية: دجاجة. ولعبة الدجاجة باختصار شديد تشير إلى تحد بين طرفين تنتج عنه ثلاث حالات: إما الصدام القوي بما يحمله من أذية للطرفين، وإما انزياح الطرفين وتلافي الصدام. وبالتالي وجود الإمكانية لكل منهما أن يدعي النصر. وأما الحالة الثالثة فهي عندما يندفع أحد الأطراف ويهرب الآخر من وجهه؛ فيسمى الدجاجة أو الجبان، وبالتالي عليه تحمل التبعات النفسية والمعنوية لكونه دجاجة.
بين الهزيمة النفسية والهزيمة المادية
يعتقد البعض أن الهزيمة المادية أشد وطأة من الهزيمة النفسية لما تجلبه من خراب ودمار وهدر للموارد، لكن الحكم في هذه القضية ليس بهذه السهولة المتصورة، فالهزيمة النفسية قد تكون لها تداعيات مادية وسياسية واجتماعية واقتصادية أشد تدميرا من الصدام العنيف. لذلك، فإيران اليوم أصبحت تستشعر خطورة الموقف، وبدأت تساوم وتستجدي القوى الدولية بأن ترسم لها سيناريو الخيار الثاني في لعبة الدجاجة. أي، الضغط على إسرائيل لقبول الانزياح قليلا بحيث يتاح لكل منهما ادعاء النصر، إلا أنه في كل يوم يمر يتضاءل أمل الإيرانيين في الحصول على هذا المخرج.
لقد بدأ التحضير منذ الآن، فمن أجل النجاح في بعض المواجهات ينصح علماء النفس لطالب المشورة أن يتوقع الأسوأ، وبناء على هذه الفكرة يبدو أن المرشد في نظام الملالي قد بدأ التحضير لجعل الخسائر المترتبة على الهزيمة النفسية في حدها الأدنى؛ فبدأ التقليل من شأن النزاع الدائر مع إسرائيل ومحاولة تصويره وكأنه نزاع ثانوي وهامشي، فالمعركة الحقيقية هي مع أتباع يزيد، والمرشد عندما غرد تغريدته الشهيرة عبر منصة “إكس” كان يعلم ما يفعل، ولم يكن ما قاله سقطة ولا زلة لسان كما اعتقد البعض.
منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى صرح “نتنياهو” بأنهم سيغيرون وجه الشرق الأوسط، ومع الأشهر الأولى لحرب غزة، وحسب سير الأحداث اعتقد الكثيرون أن ما قاله “نتنياهو” مجرد كلام، إلا أن الأحداث الأخيرة أثبتت أن نتنياهو كان يعني ما قاله، وها هي ملامح التغيير بدأت تظهر في ارتباك وتصدع محور المقاومة، والذي قد يليه انتقامات بينية، وأعراض أخرى تظهر على المهزومين، كتفريغ شحنات الغضب في الضعفاء الذين هم في متناول اليد، سواء كان هؤلاء شرائح من الشعب الإيراني، أم أصدقاء الأمس، أم غيرهم.