مقالات خارجية

الأمراض النفسية الاجتماعية والعطالة الثورية

يشير مفهوم الأمراض النفسية الاجتماعية إلى مجموعة من الأمراض والاضطرابات السلوكية ذات الأعراض والأسباب والآثار النفسية الاجتماعية. وتعتبر الأمراض النفسية الاجتماعية من مهددات الأمن النفسي الاجتماعي، حيث أن الذين يعانون من هذه الأمراض – من ذوي السلوك المضاد للمجتمع – يمثلون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين، ويعتبر هؤلاء عائق بشري لعملية البناء الاجتماعي الاقتصادي السليم، بل إنهم معاول هدم لأنفسهم وللمجتمع.

اهتمت مدارس علم النفس المختلفة بالأمراض النفسية الاجتماعية وأدلت كل مدرسة بدلوها فيما تعتقده العامل الرئيس الذي يقف خلف تلك الاضطرابات النفسية الاجتماعية، فمنهم من ربطها بالعامل البيولوجي الوراثي، ومنهم من ربطها بالعامل الاقتصادي، ومنهم من ربطها بالغرائز، وهكذا..

في سياق الفكرة التي يسعى هذا المقال لتسليط الضوء عليها تبدو طروحات “نظرية التعلم الاجتماعي” أكثر ملاءمة، فهي تؤكد أهمية التفاعل بين الفرد والبيئة، في محاولة لتحديد الظروف التي يتم في ظلها انتهاك القانون، مع التركيز على التعلم بالقدوة أو النمذجة. وهنا بيت القصيد، فالثورة السورية لم تتمكن أن تفرز شخصيات قيادية تمتلك أساليب وأدوات للقيادة تختلف عن الأساليب التي سادت في عهد النظام، وفي توصيف أكثر دقة: بعض الشخصيات الاستثنائية التي أفرزتها الثورة استطاع النظام السوري مبكرا أن يتخلص من أغلبها قبل أن تتمكن من إحداث الفارق المطلوب. لذلك، فالتقليد الأعمى من قبل قيادات الثورة في كافة مستوياتها للشخصيات التي كان المجتمع يقتدي بها قبل الثورة أصبح ملاحظا من عموم السوريين، ومن هنا تأتي الاتهامات لمعظم من يتبوؤون بعض المناصب القيادية في المؤسسات والتجمعات الثورية بالبعثيين.

وتمتاز الشخصية القدوة في عهد نظام البعث بأنها الأكثر خرقا للقوانين والعبث بها، كما تمتاز بالاستخدام النفعي للسلطة والتجبر على من هم أدنى منها وتملق من هم في مرتبة أعلى. ولأن السلطات التي تمنح لأصحاب المناصب القيادية لا يحدها سوى الولاء للقيادة العليا؛ كانت تلك المناصب محل إغراء لمعظم الشخصيات المهووسة بالسلطة، ولكثرة عدد هؤلاء كان التنافس محموما للوصول إلى المنصب، تستخدم فيه كافة الوسائل الرخيصة؛ من بيع الكرامة إلى بيع العرض إلى التضحية بالآخرين، فسادت الكيدية والتملق والمزاودة والنفاق والرشوة بكافة أنواعها كأدوات أساسية للوصول إلى المنصب. وبالتالي: السلطة.

بالعودة إلى الأمراض النفسية الاجتماعية؛ يقول علماء النفس الاجتماعيين إن أعراض هذه الأمراض تتمثل في: قصور في النضج، وسوء التوافق الاجتماعي، وعدم القدرة على مقابلة مطالب البيئة، والشعور بالرفض والحرمان، وعدم الأمن ونقص الحب، وسوء فهم الآخرين، واضطراب العلاقات الاجتماعية. ولدى محاولة البحث عن هذه الأعراض في ثنايا السلوك الاجتماعي السوري يمكن للمرء بسهولة أن يصل إلى نتيجة مفادها: إننا مجتمع مريض نفسيا. وقبل أن يعتبرها البعض سبة أو شتيمة لا بد من القول: لم تكن الأمراض يوما نقيصة يتهم بها الآخرين، فالمرض عرض يمكن أن يصيب الجميع دون استثناء عندما تتوافر الشروط والأسباب، وفي الحالة السورية؛ يمكن أن نعتبر الأمراض النفسية التي يعاني منها المجتمع نتيجة طبيعية لخضوعه – على مدى عقود – لسلطة قهرية مارست كل أنواع القهر والحرمان. أي، يمكن اعتبار تلك الأمراض جريمة ارتكبت من قبل السلطة بحق الشعب السوري تضاف إلى سلسلة جرائمه متعددة الجوانب.

قد يقول قائل: لكن هذه الأعراض تبدو أكثر وضوحا وتجذارا في البيئة الثورية أكثر مما هي لدى حاضنة النظام. وبالتالي؛ القول إن معظم الشخصيات النشطة في البيئة الثورية مازالت ترزح تحت تأثير التعلم بالقدوة والنمذجة يفتقر إلى الدقة، بل وأصبح مستوى التشرذم وعدم القدرة على إفراز قيادة ثورية موحدة محط سخرية وتحد من قبل رجالات النظام وأبواقه. وهنا لا بد من الإشارة إلى فارق مهم يجعل الصورة تبدو وكأنها مختلفة، فوجود السلطة القهرية على رأس الهرم المشكل من الأعلى نحو الأسفل يجعل الصراع على المناصب والسلطات الدنيا في التسلسل الهرمي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام ينحصر في التنافس على إظهار الولاء وتقديم الرشى والكيدية وإسقاط الآخرين دون مقدرة على التعطيل، إذ تحسم تلك الصراعات والمنافسات من خلال قرار بالتعيين من قبل سلطة أعلى لا يوجد من يتجرأ على رفض قراراتها. لذلك، فإن معظم الحكومات التي تتركز فيها موارد السلطة بيد رجل واحد، تخلق نوعا من الخوف لدى النخب الحاكمة من لحظة موت الحاكم، إذ قد يخلق الصراع على السلطة حالة من التمزق الذي قد يؤدي إلى انفراط عقد المنظومة الحاكمة بالكامل. إذن، في ظل غياب السلطة القهرية التي يتملقها عشاق السلطة لتنصيبهم؛ تبدو ظاهرة صعوبة التوافق والتشرذم والأعراض المرضية الأخرى أكثر وضوحا.

من جهة أخرى، أدى غياب السلطة القادرة على حسم الخلافات في المناطق المحررة إلى هذا الاستعصاء الذي يلاحظه الجميع، فأصحاب الطموح السلطوي في البيئة الثورية يفضلون ذلك النموذج الذي عاصروه من السلطة، فهو أكثر إغراء من الأنواع الأخرى من السلطات التي يقيدها القانون الوضعي أو الأخلاقي على اعتبار أنه أكثر إرضاء للغرور الإنساني، كما أن خبراتهم تنحصر في هذا النوع من السلطة. وتصطدم هذه الرغبة لدى هؤلاء بنفور شعبي تقوده بعض النخب التي تشعر بأنها لن تحظى بموقع جيد في التسلسل الهرمي الذي قد ينتج عن نجاح جهة ما أو شخصية ما بتكوينه، وهو ما يخلق قوة عطالة يصعب تحييد إحدى قواها لنقلها من حالة الجمود إلى حالة الحركة.

يشير مبدأ العطالة إلى الحالة التي يكون فيها الجسم محافظاً على سكونه أو حركته المستقيمة المنتظمة وذلك في حال عدم وجود قوة دخيلة تغير من هذه الحالة. بمعنى أن الجسم الساكن لن يتحرك ما لم تحركه بيدك أو بأي شيء آخر، والجسم المتحرك سيظل مستمرا بشكل منتظم ومستقيم ما لم تتدخل قوة خارجية تحركه. بهذا المعنى، ستبقى البيئة الثورية ساكنة وغير قادرة على الفعل ما لم تأت قوة خارجية تحركها. فالحلول الذاتية تبدو شبه مستحيلة، فهي تتمثل باعتراف جيل كامل بأنه جيل مستهلك فقد صلاحيته، وإفساحه المجال لجيل آخر لا يعتبر رجالات النظام قدوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى