الفصائلية ورد الحقوق
الطائفية والمناطقية والعشائرية والعرقية وغيرها، سلسلة من الأمراض التي ظهرت بشكل فج في السنوات الأخيرة نتيجة لامتداد عمر الأزمة السورية التي كشفت عنها ثورة الحرية والكرامة للشعب السوري، والتي انطلقت بشعارات وطنية صرفة وأهداف وقيم نبيلة وسامية.
في الواقع لم يكن أثر الثورة منشئاً لتلك الأمراض في المجتمع السوري عموماً، والمجتمع السياسي خصوصاً، وإنما كاشف لها، فهي كانت حبيسة غلاف سميك من شعارات المقاومة والممانعة ووحدة الأمة ورسالتها الخالدة، والتي فرضت فرضاً على السوريين في سبعينات القرن الماضي عبر حزب البعث ونظامه الأسدي، الذي عسكر الدولة والمجتمع، وغيب كل مظاهر الحياة المدنية الطبيعية، وعطل كل ديناميات المشاركة السياسية من خلال اعتماده منظومة الحزب الواحد الذي لم يكن سوى ستاراً مدنياً يختبئ خلفه نظام أمني متخلف ومتوحش؛ ومؤدى ذلك تغييب مفهوم الدولة كشخص قانوني مجرد، يجسد الشعب والجغرافيا والسلطة، ومن ثم تم إسقاط شخصية القائد على الشخصية القانونية للدولة حتى أصبحت اسمها سورية الأسد، ومع مرور الزمن بات من العسير إعادة الأمور إلى نصابها من خلال فصل شخصية الحاكم وطبيعة نظام الحكم عن الشخصية القانونية المجردة للدولة، وهو ما عبرت عنه الشعارات التشبيحية مثل “الأسد أو نحرق البلد”، “الأسد أو لا أحد”، التي كانت الجواب على شعارات ثورية وطنية مثل “عاشت سوريا ويسقط الأسد”، “سوريا لنا وليست للأسد”. فقد تمكن نظام الأسد من تحويل الدولة السورية إلى ملكية خاصة أو مزرعة له ولحاشيته، وهي بالفلسفات النظرية لحزبه ليست دولة وإنما مجرد قطر من الأقطار العربية، وذلك ما عطل قيام هوية وطنية سورية مرتبطة بشكل عضوي بالدولة السورية كشخص اعتباري مستقل عن الأشخاص الذين تتكون منهم تلك المؤسسة/الدولة، أو أولئك الذين يديرونها.
بناءً عليه كان من الطبيعي بعد مرور نصف قرن على تكريس تلك المفاهيم المغلوطة أن تظهر أمراض الهوية الوطنية، وأن يعتصم الناس بهوياتهم الفرعية، بغرض تأمين شيء من الحماية لوجودهم وحقهم في المشاركة بإعادة انتاج عقدهم الاجتماعي وهويتهم الوطنية واستعادة دولتهم التي حطمها النظام الأسدي تماماً.
ولعل من أخطر تلك الأمراض وأشدها وطأة هو مرض الفصائلية، وهو الوحيد المستجد والذي يمكن القول إن أثر الثورة منشئ له وليس كاشفاً.
لم يكن من العسير على نظام الأسد جر شباب الثورة إلى العسكرة والتسلح، بعد أن عسكر المجتمع السوري على مدى نصف قرن بدءً من معسكرات طلائع البعث وصولاً إلى الجندية الإلزامية، ومروراً بمعسكرات الفتوة والشبيبة والصاعقة والتدريب الجامعي ومعسكرات أعضاء حزب البعث، فالجميع متدرب على السلاح ومعتاد على اللباس الحربي.
وعندما وضع النظام الشباب الثائر أمام خيار “أحكمكم أو أقتلكم” ألجأهم إلى حمل السلاح دفاعاً عن النفس، ثم ركز الاستهداف بحملات الإبادة الممنهجة على المكون الأكثري تحديدا بالتزامن مع إطلاقه لسراح المتشددين الإسلاميين من السجون وتسهيله لعبور السلاح والأفراد من خارج الحدود، ثم سياسة إعادة الانتشار العسكري والتموضع على تخوم المدن الرئيسية ودواخلها والانكفاء عن معظم الأرياف ، فكل ذلك أدى إلى نشوء ظاهرة الفصائل الإسلامية من جهة والفصائل المناطقية من جهة أخرى، وكان من الطبيعي أن يتعلق الغريق بقشة “جئنا لنصرتكم”؛ ومع تلاشي مظاهر الدولة، وغياب سيادة القانون، برزت ظاهرة شرعي الفصيل ومن ثم القضاء الفصائلي المنفرد والمتعدد بهدف ضبط سلوكيات عناصر الفصائل. مع مرور الزمن تحولت تلك الفصائل إلى مؤسسات قائمة بذاتها رغم افتقارها إلى أدنى المعايير المؤسسية، ولكنها أشخاص اعتبارية لجهة اكتساب الحقوق فقط، وليس لجهة تحمل الواجبات والمسؤوليات، ولعل من منح الفصائل تلك الشرعية هم شرعيوها وقضاتها أنفسهم على قاعدة “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”؛ وظهر ذلك جلياً من خلال الأنظمة الداخلية المكتوبة والعرفية التي وضعتها تلك الفصائل لنفسها، ثم طورتها مع الاندماجات اللاإرادية التي أوجدت الفصائل الكبرى، سواء كانت بطريقة التغلب أو بطريقة الاحتواء والابتلاع بسبب عجز الفصائل الصغيرة عن الاستمرار نتيجة انعدام الموارد، وكذلك بسبب أجندات المانح الخارجي؛
ولعل الخطيئة الكبرى التي ارتكبها شرعيو الفصائل وقضاتها ولجان الصلح التي فضت النزاعات الفصائلية، تتلخص بمضمون عبارة “رد الحقوق”، فتلك الحقوق تتعلق بممتلكات مادية أساساً هي السلاح والمقرات والمعابر والمرافق الاقتصادية والرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها الفصيل منطقة الانتشار التي تحولت إلى منطقة حكم ونفوذ، فهم بذلك قد رسخوا فكرة أن الفصيل هو شخص اعتباري قائم بذاته وله ذمة مالية وممتلكات وحقوق اقتصادية. كما أن أحكام فض النزاعات، لطالما قامت على رد الحقوق باعتبارها حقوق ملكية لا حقوق حيازة، وهو ما رسخ عرفاً قضائياً على هذا النحو استمر طيلة سنوات الثورة ولا يزال مستمرا حتى اليوم.
وتلك الخطيئة الكارثية سببها غياب مفهوم الدولة عن عقول أولئك المحكمين، لأسباب أيديولوجية حيناً، تتعلق بعدم الاعتراف أساساً بفكرة الدولة والحدود، أو بسبب الجهل الذي كرسه تغييب المفهوم الحقيقي للشخصية القانونية للدولة على مدى نصف قرن على الأقل، أحياناً كثيرة.
ومؤدى ذلك أن الأساس الذي بنيت عليه تلك الأحكام هو أساس باطل، والقاعدة تقول ما بني على الباطل باطل؛ فحتى لو كانت تلك الفتاوى والأحكام تجد سنداً لها في كتب الفقه واجتهادات السابقين، فمما لا شك فيه أن تلك الأحكام ظهرت في زمن الدولة الإمبراطورية المترامية الأطراف والتي ليس لها حدود واضحة، وكانت تحكم المجتمع الدولي حينها قواعد عرفية منسجمة مع ذلك الواقع، وهذا لا ينسجم مطلقاً مع المفهوم الحديث للدولة، دولة الشعب والحدود الواضحة، حيث السلاح والمقرات والمرافق الاقتصادية هي ملكية عامة للشعب الذي يتجسد بمجموعه مع حيزه الجغرافي على شكل شخص اعتباري اسمه الدولة، وبهذا المعنى تلك المقدرات هي ملك للدولة التي تجسد إرادة الشعب وليست ملكاً خاصاً لهذا الفصيل أو ذاك. وفي زمن الثورات، وعندما تغيب الدولة كمالك لتلك المقدرات وكشخص قانوني يحتكر استخدام القوة والسلاح على أراضيه، تصبح يد الفصائل على تلك المقدرات يد أمانة وليست يد ملكية، وللأمانة قواعد معروفة أولها رد الوديعة لمالكها حين الطلب وعدم جواز التصرف بها بيعاً أو تنازلاً أو هبةً، وحتى السلاح الفردي يمتلك الفرد قيمته المادية ولكنه لا يمتلك حق استعماله واستخدامه إلا وفقاً للقواعد العامة المعروفة.
ولإزالة آثار ذلك البطلان، لا بد من حوكمة المناطق المحررة، وذلك بإنتاج سلطة مدنية سياسية آمرة تدير تلك المقدرات بما فيها السلاح، وتلتزم بقراراتها مؤسسة تنفيذية عسكرية ناتجة عن إعادة تفكيك الفصائل وتركيبها على أسس وطنية، وضمن ضوابط منظومة القيم الأخلاقية العرفية وهي، بلا شك، قيم دينية بالأساس أو وفقاً لقواعد قانونية تقنن تلك القيم، لتكون النواة لجيش سوريا المستقبل.
ومن نافلة القول إن كل سلاح خارج إطار الشرعية يتحول إلى سلاح ميليشيوي منبوذ، ويحول الفصيل إلى جماعة إيديولوجية مسلحة، أو شركة أمنية تقدم خدماتها بمقابل مادي، ويفقده الحاضن الشعبي كما يفقده مشروعيته الثورية؛ وإن الشعب السوري خرج بثورته لاستعادة الدولة من مغتصبها، نظام الأسد، واستبداله بنظام يتمتع بشرعية تمثيل شعبها بوصفه مصدراً للسلطة والشرعية وصاحباً للسيادة، وليس استبدال الدولة بحد ذاتها بمجموعة من مناطق النفوذ الفصائلي أو الأجنبي. فهل سيتم استدراك الخطيئة قبل فوات الأوان؟