ذكرى ثورة الحرية والكرامة
أنهت ثورة حرية الشعب السوري وكرامته عامها الحادي عشر، وها هي تستعد لمواصلة المسير بعد أن ملأت جموع المحتفين بذكراها الساحات في الداخل والخارج، “فالثورة مستمرة”، كما يعبر الأحرار السوريون، رغم كل المعاناة والآلام، رغم القتل والاعتقال والنزوح والإفقار والتشريد، ليس لأنها هدف بحد ذاتها، وإنما لكونها وسيلة لا مفر منها للوصول إلى حلم التغيير والانتقال نحو نظام الشعب فيه مصدر السلطة وصاحب السيادة، ينعم بالحقوق والحريات في ظل المساواة الكاملة وسيادة القانون، وفق عقد اجتماعي يصنعه السوريين بأنفسهم دون وصاية أو إملاء.
صحيح أن الثورة بعد مضي تلك السنون، لم تنجح في بلوغ أهدافها، ولكنها، مع ذلك، لم تفشل ولم تهزم كما يزعم البعض. على العكس من ذلك لقد سقط نظام الأسد؛ سقط منذ أول رصاصة أطلقها على صدور المتظاهرين السلميين وقرر الشعب مبدأ “يلي بيقتل شعبو خاين”..
سقط منذ أن قتل الطفل حمزة الخطيب وعذب رفاقه الذين خطت أناملهم الطاهرة البريئة على جدران مدرستهم “أجاك الدور يا دكتور”..
سقط منذ أن اعتمد الحل الأمني في مواجهة مطالب الشعب المشروعة ثم ألحقه بالحسم العسكري وزج الجيش في مواجهة الشعب وحماية النظام الحاكم بدلا من حماية الدولة والشعب..
سقط منذ أن استدعى الميليشيات الطائفية والجيوش الأجنبية لتحمي كرسيه وتعيث في الأرض قتلا وفسادا ونهبا وتشريدا وتسلب سيادة الدولة ..
سقط منذ أن فضل قتل واعتقال وإخفاء وتهجير الملايين من المواطنين السوريين على التجاوب مع استحقاق التغيير..
والحق أن ذلك السقوط ليس فعليا حتى اليوم، ولكنه بالتأكيد سقوط أخلاقي في عيون كل السوريين، حتى من انخدع منهم بادعاءاته وشعاراته، وفي عيون العالم بأسره، وهذا النوع من السقوط تصلح معه قاعدة “الساقط لا يعود”، وهو ما يفسر الإصرار على الاستمرار، إذ لم يعد من الممكن منطقيا قبول فكرة الحل الوسط أو أية حلول سياسية لا تفضي إلى التغيير الجذري.
ذلك السقوط الأخلاقي والقيمي والإنساني سيفضي دون شك إلى سقوط قانوني وسياسي ما دام الشعب مصرا على المضي بثورته وتضحياته وفرض إرادته على العالم بأسره، فالدول التي حمته من الزوال لن يكون بمقدورها تحمل التبعات الأخلاقية لاستمراره واستمرارها في التغاضي عن نظام اجرامي مارق وطنيا ودوليا.
ولعل من مؤشرات ذلك السقوط الحتمي مسارعة نظام الأسد مع بداية الثورة إلى نسف دستوره القديم (1973) الذي أقام عليه الدولة السورية وجعلها مجرد مزرعة له ولزبانيته وأسقط شخصية الدولة على شخصية الحاكم وبنى كافة المؤسسات، وعلى رأسها الأمنية والعسكرية، على أساس الولاء للدكتاتور، واحتكرها سياسيا من خلال حزب البعث وأخواته وفكره الشمولي وعقيدته الاشتراكية، فألغى كل ذلك بدستوره اللاحق في 2012، ولو نظريا، وكذلك أصدر قانونا جديدا للإدارة المحلية أدعى من خلاله الانتقال نظريا من المركزية إلى اللامركزية الإدارية، رغم أنه أفرغه من مضمونه بجعل الإدارة المحلية تحت سيطرة المحافظ الذي يعينه هو، وسوى ذلك من الإجراءات (الشكلية) والمؤشرات التي لا يتسع المقام لسردها، أليس كل ذلك اعتراف بسقوط النظام السياسي الذي بناه الديكتاتور الأب؟ أليس ذلك بسبب الثورة؟؟
ولكن تلك الإجراءات سارت بالتوازي مع استمرار آلته الأمنية والعسكرية وميليشياته الطائفية في القتل والتدمير والتهجير الممنهج ليصل إلى سوريا متجانسة مع رؤيته الجديدة للدولة المتمحورة حول شخصه، ليثبت بشكل لا يدع مجالا للشك بأن العقلية الأمنية والنفعية نهج لذلك النظام ولا يمكنه الخروج عنه، وبالتالي لم تنطل تلك الخدع والألاعيب على المارد الذي خرج من القمقم طالبا الحرية والذي لن يعود إلى قمقم أو مزرعة وإنما إلى دولة.
لقد فشل النظام الأسدي في الاستجابة إلى استحقاق التغيير كما فشل في قمع إرادة الشعب رغم فائض الوحشية التي استخدمها لإركاع الشعب، ولعل المظاهرات والوقفات الاحتفالية التي عمت أرجاء المعمورة والمخيمات وأماكن النزوح واللجوء وتفاعل معها المسؤولون والسفارات أبلغ دليل على الإصرار والاستمرار رغم عظم الآلام.
ولكنه نجح، بمؤازرة حلفائه الإيرانيين والروس ومرتزقتهم، وتواطؤ غيرهم، في الحفاظ على بقائه في السلطة بعد أن أسقط الدولة السورية بمقوماتها الثلاث، شعبا وإقليما وسيادة، تنفيذا لوعيده “الأسد أو نحرق البلد” ويا له من نجاح!! أشبه بنجاح العملية الجراحية الدامية مع وفاة المريض.
بعد عقد وعام على انطلاق ثورة الحرية والكرامة بات الشعب السوري بكامله أمام استحقاق استعادة الدولة كلها، لا استعادة السلطة وحسب، وهو ما يتطلب إعادة انتاج عقد اجتماعي إرادي لا مكان فيه للمجرمين وزعيمهم، ويرتب على السوريين نمط تفكير مختلف يقوم على العمل الجماعي المنظم ومد جسور الحوار وبناء الثقة بين أبناء الشعب ومكوناته على مساحة الجغرافيا السورية وخارجها، وبما يمكنهم من استغلال الفرص التي تلوح في الأفق الدولي وبما يقصر الطريق ويقلل الكلفة ويحقق الغاية.