وين بدنا نروح؟
واحد من أهم الأسئلة التي يروج طرحها خلال فترات التصعيد التي مرت على المناطق المحررة، سواء في الغوطة الشرقية، أو مضايا، أو درعا، أو ريف حمص الشمالي: (وين بدنا نروح؟) وطبعا، سكان هذا المناطق كان دائما يجول في خواطرهم خيار الانتقال إلى الشمال المحرر كأحد الخيارات التي يمكن أن تطرح، ولكن، وبعد أن فرض خيار الشمال على الجميع بات السؤال أكثر ثقلا على سكان الشمال السوري بعد الهجوم العسكري الذي يشنه النظام بالشراكة مع حلفائه الروس والإيرانيين، وخيار الانتقال الى منطقة أخرى أصبح غير متوفر. وعليه، يصبح سؤال المصير والمستقبل أكثر ثقلا على المواطن، وفي مثل هذه اللحظات يصبح العقل البشري وتحت ضغط القصف والتهجير وبطريقة غير إرادية يرسم صورة سوداوية للواقع والمستقبل معتمدا ماكينة فرز اعتباطية؛ تقوم بفرز كل العوامل الإيجابية التي يمكن أن تغير هذا الواقع والمستقبل، وتقوم بتدمير هذه العوامل. وفي الجهة المقابلة تقوم بترسيخ كل العوامل السلبية وتمكينها وجعلها حقائق راسخة، وجعلها المحدد الرئيسي لرسم الواقع الحالي والمستقبل، فصحيح أن النظام استطاع احتلال أجزاء لا يستهان بها من المناطق في إدلب وريف حلب الغربي، ولكن النظام أيضا يدرك أن عامل الوقت -وخصوصا مع اقتراب تطبيق قانون سيزر في شهر حزيران- سيشكل عاملا حاسما في لجمه وحلفاءه.
صحيح أن التهجير الذي يعاني منه أهلنا في إدلب وريف حلب الغربي يشكل مأساة إنسانية بحق السوريين، ولكنه أيضا يشكل عاملا ضاغطا وبقوة على كل من تركيا والاتحاد الأوروبي ليشكلوا قوة ضغط قوية لمنع استمرار هذه الحملة العسكرية خوفا من موجات هجرة غير مسبوقة. صحيح أن نقاط المراقبة التركية لم تستطع منع النظام من التقدم -ويرتبط هذا أساسا بطبيعة هذه النقاط وطبيعة المهام المناطة بها- ولكن أيضا، تركيا زجت مؤخرا بقوات ذات طبيعة دفاعية وهجومية وبأعداد كبيرة في الميدان، وقد ربطت مصير إدلب بالأمن القومي التركي، وهو أعلى هدف تسعى الدول للحفاظ عليه، وهي (تركيا) مستعدة لضخ موارد كبيرة في سبيل المحافظة عليه. صحيح أن روسيا هي قوة عظمى وهي قادرة على الفرض في سورية، وخاصة أنها منفلتة من أي قيد إنساني أو قانوني، ولكن في نفس الوقت الساحة ليست متروكة لروسيا فقط، فأميركا ما زالت حاضرة بقوة ورغم رغبة ترامب في مغادرة سورية لكن مؤسسات الدولة الامريكية الرئيسية -وخاصة المؤسسة العسكرية- حالت دون تطبيق الانسحاب الأمريكي من سورية، وهو ما يوضح وبشكل لا يقبل الشك أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك الساحة السورية للروس والإيرانيين.
وصحيح أن فصائل الثورة لم تستطع صد هجمة النظام، وأن أغلب المعارك العسكرية في الفترة الماضية كانت نتائجها هي الخسارة، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن أغلب القوة العسكرية للثورة ما زالت موجودة، وما زالت لاعبا أساسيا، سواء كان على مستوى العدد أو على مستوى العدة، والفارق كان أساسا نتيجة التفوق الجوي للنظام وحلفائه، والذي بدأنا نرى أول بوادر إمكانية تقييده من خلال استخدام الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف. وصحيح أن المعادلة العسكرية والسياسية مختلة بين القوى الثورية من جهة وبين النظام والروس والإيرانيين من جهة أخرى، ولكن هذه المعادلة باتت تتغير، فاليوم على الأرض لم تعد قوى الثورة وحيدة، بل تركيا أيضا موجودة هناك، وكذلك أوربا موجودة وإن كان دعمها مقتصرا على الصعيد السياسي حتى الآن، أما أميركا، فهي موجودة سياسيا ويبدو أنها في الآونة الأخيرة تحاول البحث عن صيغة تمكنها من التواجد العسكري من خلال قواتها مباشرة، أو من خلال حلف “الناتو”، وقادم الأيام سيظهر حدود الدور الأميركي الجديد في سورية.
وفي الختام، فسؤال (وين بدنا نروح؟) لا يرتبط فقط بالعوامل السلبية التي تفرضها اللحظة، ولكن بالعوامل الإيجابية، وما بين الجدار التركي والعودة لما بعد مورك، أو ما بين هذا وذاك تتفاعل عدة عوامل، وهي التي ستعطي النتيجة النهائية، ولكنها من المؤكد لن تكون محصلة للعوامل السلبية فقط، ولا للإيجابية فقط، بل محصلة تفاعلهما معا.