مفهوم المصلحة في العقل الجمعي السوري
منذ وقت مبكر لفت “العقل الجمعي” اهتمام الكهنة ورجالات الدين، والزعماء فيما بعد، حتى قبل أن يُعرف هذا المصطلح ويتم تداوله في منتجات ما بات يعرف بعلم النفس الاجتماعي، إذ يمكن تمرير الأفكار بين الناس، بحيث تتحول بمرور الوقت لشيء أقرب للمعتقد أو من الثوابت التي لا تتزحزح من مكانها. ويقصد بالعقل الجمعيّ: الطريقةُ التي نشخِّصُ فيها ما هو صحيح عن طريقِ ما يظنُّه الآخرون صحيحا، أو بعبارة أخرى: ظاهرة نفسيَّة يفترِض فيها الإنسان أنّ تصرفات الجماعة في حالةٍ معيَّنة تعكِسُ سلوكا صحيحا، أو كما عرفه “غوستاف لوبون” بأنه: الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة.
في كتاب يحمل عنوان “اغتصاب العقل” يعتبر عالم النفس الدكتور “جوست ميرلو” مؤلف هذا الكتاب، أنه من خلال الضغط على نقاط ضعف معينة في التكوين الإنساني، يمكن للأنظمة الشمولية أن تحول أي شخص إلى “خائن”. ويمضي أبعد بكثير فيتحدث عن التأثيرات العسكرية المباشرة للتعذيب العقلي ليصف كيف أن ثقافتنا تظهر، بشكل ليس من السهل ملاحظته، أعراض الضغوط التي تتعرض لها عقول الناس. إنه يقدم تحليلا منهجيا لوسائل غسيل الدماغ والتعذيب العقلي والإكراه، ويصف العصر الجديد، بعصر الحرب الباردة وبالهلع العقلي الذي يميزه والغموض اللفظي والدلالي، وكيفية استخدام الخوف لإخضاع الجماهير، ومشكلتي الخيانة والولاء. وكيف يتم استغلال الصفات الإنسانية للتأثير على العواطف وممارسة السلطة على أفكار الآخرين.
في إحدى مقولاته الشهيرة يقول “جوبلز” وزير الدعاية النازي الشهير: أعطني إعلامًا بلا ضمير. أعطك شعبًا بلا وعي. وبالفعل، استطاع “جوبلز” أن يقنع الشعب الألماني المتقدم الواعي بما يعتمل في صدر النازية المريض ونجح في إقناع 80 مليون ألماني وقتها بأن ألمانيا فوق الجميع وأن الجنس الآري خير أجناس الأرض، وأن هتلر هو القائد الملهم والزعيم الذي لا يخطئ.
مما سبق، يمكن القول إن الأنظمة الاستبدادية تمارس مع شعوبها ما يمكن أن نطلق عليه عملية “اغتصاب العقل الجمعي”، فعن طريق احتكارها لوسائل الدعاية والإعلام، وعن طريق إرهاب الشعوب تستطيع هذه الأنظمة تشويه المنظومة القيمية والأخلاقية وصياغة عقلا جمعيا يخدم مصالحها. فعلى سبيل المثال: كان السوريون فيما مضى يرددون عبارة: “الغرب يعمل لمصالحه” أو لزيادة التوكيد وترسيخ الفكرة: “معلوم للجميع أن الغرب يعمل لمصالحه” وهي عبارة فيها الكثير من المغالطة، إذ هي تحصر العمل من أجل المصالح الخاصة بالدول الغربية فقط، علما أن العبارة لكي تستقيم يجب أن تكون: “الدول تعمل لمصالحها”.
خلال السنوات التي مرت من عمر الثورة وجد النظام السوري أن عبارة “الغرب يعمل لمصالحه” لم تعد تفي بالغرض، إذ أصبح له الكثير من الأعداء من خارج دائرة الدول التي تسمى “الدول الغربية” فتحولت العبارة إلى العبارة الأكثر دقة؛ حيث بدأنا نسمع الأغلبية تردد عبارة “الدول تعمل لمصالحها”. رغم ذلك، لم يعد التغيير في العبارة عن كونه تغيير باللفظ دون المساس بالمضمون، بل يمكن القول إن المضمون أصبح أكثر إيذاء من ذي قبل، خصوصا إذا علمنا أن الغاية الأساسية من مثل هذه المعلومات هي جعل الإنسان منغلقا على ذاته ينظر إلى الآخرين نظرة ملؤها الشك والريبة. فالمصلحة في العقل الجمعي السوري تعني شيئا ذميما، فيقال “إنسان مصلحجي”. أي، إنسان سيء، علما أن مفهوم المصلحة ليس تهمة ولا نقيصة، إنما هو توصيف لواقع، فالدول والجماعات تحركها المصالح الخاصة، وحتى الأفراد يخضعون لنفس القانون؛ فالإنسان بشكل عام تحركه مصالحه، سواء منها المادية أم المعنوية. صحيح أن السعي نحو المصالح يأخذ عدة أشكال، منها ما هو مغلف بغلاف أخلاقي، ومنها ما هو غير ذلك، ومنها ما هو قانوني، ومنها ما هو مخاف للقانون أو للأعراف، لكن رغم ذلك تبقى عبارة الكل يعمل لمصالحه عبارة دقيقة.
إذن، ما دام الكل تحركه المصالح ونحن السوريون جزء من هذا الكل يُعتقد أن الحديث عن المصالح يفترض البحث عن مدى تقاطع هذه المصالح ومدى تعارضها، فالمصالح تتقاطع أحيانا إلى حد التطابق أو ما يقارب ذلك، وتتقاطع أحيانا بمساحات تختلف، تكبر أو تصغر. وتتعارض المصالح أيضا بدرجات مختلفة قد تصل لمرحلة الصدام عندما يكون حجم التعارض كبيرا. وبالطبع، يترافق تقاطع المصالح مع نوع من التقارب والود والصداقة كسياق طبيعي للوضع الذي تخلقه هذه الحالة، ويترافق تنافر المصالح مع الفتور في العلاقات أو البغضاء والضغينة.
في العقل الجمعي السوري المغتصب من قبل سلطة الاستبداد؛ لا يجوز التقارب مع أحد أو شكر أحد لمجرد أنه يعمل لمصالحه، فعلى سبيل المثال: لنفترض أن دولة ما، لا على التحديد، وجدت أن النظام السوري يهدد أمنها القومي فقامت بإسقاطه وإراحة السوريين منه، فهذه الدولة لا تستحق الشكر لأنها تعمل لحماية أمنها القومي. أي، تعمل من أجل مصالحها الذاتية.
هكذا يفسر العقل الجمعي السوري مفهوم المصلحة، ولكن للأمانة: البعض تخلص من سطوة هذا العقل.