كورونا وأمريكا في الشرق الأوسط
يعد موضوع التغير والاستمرار في السياسية الخارجية من السمات المهمة التي تميز السياسية الخارجية عن غيرها من السياسات ويميز “شارلز هيرمان” بين أربعة أشكال من التغير في السياسية الخارجية:
- التغير التكيفي ويقصد به تغير في مستوى الاهتمام الموجه إلى قضية معينة، مع استمرار وبقاء السياسية في أهدافها والأدوات السياسية كماهي.
- التغير البرامجي، وينصرف إلى تغير في أدوات السياسية الخارجية، ومن ذلك تحقيق الأهداف عن طريق التفاوض وليس عن طريق القوة العسكرية مع استمرار الأهداف.
- التغير في الأهداف، ويشير إلى تغير أهداف السياسية الخارجية ذاتها وليس مجرد تغير الأدوات.
- التغير في توجهات السياسية الخارجية، وهو أكثر أشكال التغير تطرفاً وهو ينصرف إلى تغير التوجه العام للسياسية الخارجية بما في ذلك تغير الأدوات والاستراتيجيات والأهداف.
ولا بد من القول: إن التغير في السياسية الخارجية يحدث بالتدريج لأن السياسية الخارجية يحكمها توجه عام واستراتيجيات، واحتمالية التغير الجذري تبقى محدودة، وخاصة في الأنظمة الديموقراطية مقارنة بالدول التسلطية، ولكن هذه القاعدة لها استثناءات مرتبطة أساسا بحدوث تحولات مفاجئة غير متوقعة تفرض على الدولة إحداث التغيير بشكل سريع.
لعل هذا المدخل يساعدنا في فهم طبيعية التغيير في السياسية الخارجية الأمريكية الحالية تجاه منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة؛ فتاريخ التواجد الأمريكي المباشر في المنطقة ليس بعيدا زمانيا كما هو التواجد البريطاني أو الفرنسي، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور العجز العسكري البريطاني عقب الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وفي خضم تنافسها العالمي مع الاتحاد السوفيتي يزداد اهتمامها في المنقطة فانتهجت مبدأ (ترومان)، لملء الفراغ الناجم عن تراجع دور بريطانيا الدولي، ثم تبعه مشروع (مارشال))، عام 1947 الذي تحول فيما بعد إلى قانون المساعدات الخارجية لعام 1948، ويمكن القول أن السياسة الأمريكية في الفترة الممتدة من بداية الخمسينات وحتى نهاية السبعينات بنيت أساسا على فكرة المساندة والتفاهم مع بعض الأنظمة السياسية من الخلف، ودون التواجد المباشر ضمن منظومة لعبة الصراع مع السوفييت. وبعد التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان في 24 كانون الأول عام 1979 قام الرئيس “كارتر” في شباط 1980 بإرسال قوة برمائية من مشاة البحرية، عددها 1800 جندي تعززها (19 طائرة عمودية) ومجموعة من الدبابات إلى منطقة الخليج، وكانت هذه أول مرة ترسل فيها الولايات المتحدة قوة مقاتلة من مشاة البحرية إلى المنطقة. وعليه، كانت بداية التدخل المباشر مرتبط بعامل خارجي عن المنطقة؛ مرتبط بتدخل قوى عظمى في إقليم يعتبر محل تنافس مما استوجب ردة فعل
أمريكية، ليتلوه فيما بعد زيادة في التواجد وخاصة بعد الغزو العراقي للكويت والذي أدى الى تدخل امريكي عسكري كبير ومباشر في المنطقة ويجب التركيز هنا على حقيقية أن التدخل الأمريكي هذه المرة أتى مترافقا مع تحول جذري في بنية النظام الدولي بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتقال النظام الدولي باتجاه القطبية الأحادية، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية نيتها بناء نظام عالمي جديد، وهو ما يفسر العزم الأمريكي من خلال حرب تحرير الكويت على إرسال رسالة واضحة للجميع بأن عملية تحدي الموقع الذي تشغله أمريكا له تبعات كبيرة على من يتجرأ عليه، وقد ترافقت هذه العلمية مع ازدياد واضح في أهمية عامل النفط كمصدر أساسي للطاقة بالنسبة للدول الصناعية. وبالتالي، أصبح عاملا أساسيا في معادلة الصراع على الموارد بين الدول الكبرى. وعليه، فالتواجد الأمريكي في المنطقة كان يعني زيادة قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التأثير في الثروة النفطية الموجودة في المنطقة، وأين ستصب، ولمصلحة من في النهاية؟
أمريكا …….. التواجد الفعال
يمكن القول: إن التوجه العام للسياسية الخارجية الأمريكية خلال الفترة الزمنية السابقة هو التواجد المباشر في إقليم تنافس بين الدول الفاعلة في المنطقة، ولكن مع بداية القرن الجديد ظهرت عوامل جديدة كان لها أثرها العميق على التوجه العام للسياسة الخارجية الامريكية وهي:
أولا: النهوض الصيني في شرق آسيا، والذي تم تقديره في الولايات المتحدة الأمريكية على انه أكبر تحد قادم لها؛ مما استوجب إيجاد تغيير جذري في مستوى اهتمامات الولايات المتحدة الامريكية في منطقة الشرق الأوسط، وتركيز مزيد من الاهتمام في منطقة شرق اسيا.
ثانيا: الفشل الأمريكي في التجارب العسكرية في كل من أفغانستان والعراق مما ضاعف من قوة التيار الداعي لانسحاب أمريكا من هذه المنطقة باعتبار المنطقة منطقة صراعات لا تنتهي، والدخول فيها هو دخول في رمال متحركة.
ثالثا: انخفاض أهمية المنطقة كمصدر طاقة بالنسبة لأمريكا بعد الطفرة الطاقوية الهائلة في أمريكا على مستوى استخراج النفط من الأراضي الامريكية، والتي حولت أمريكا لأكبر بلد منتج للنفط في العالم، حيث قال ترامب في أحد تصريحاته: “نحن نستورد كميات ضعيفة جداً من المنطقة بعد أن أحرزنا تقدماً كبيراً حول الطاقة في العامين ونصف الماضيين”، مشيراً إلى قرب تصدير بلاده للنفط والطاقة”، وهو ما دفع ترامب بمطالبة السعودية بـ “الدفع مقابل الحماية”، إذ قال في أكثر من مناسبة إنه يتعين عليهم دفع الأموال مقابل ذلك.
رابعا: التداعيات ثورات الربيع العربي على المنطقة، والتي أدت الى موجات من عدم الاستقرار لم تصل إلى خواتيمها بعد.
وعليه، يمكن القول: إن التوجه العام للسياسية الخارجية الأمريكية خلال هذه الفترة الزمنية هو الانكفاء والانسحاب الجزئي من الإقليم، وتركيز الاهتمام في أقاليم أخرى.
كورونا …….. وراء دُر باتجاه الشرق الأوسط
عشرات التوقعات والتحليلات من الخبراء الاستراتيجيين تتفق على أن عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله، حتى أن ” الأب الروحي للسياسة الخارجية الامريكية ” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر قال: “إن جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد، وتداعياتها قد تستمر لأجيال عديدة”، ولكن يمكن القول: إن التداعيات الفعلية لهذا الوباء مرتبطة أساسا بمداه الزمني المتوقع للاستمرار، وهو أمر مجهول حتى هذه اللحظة، فكلما طال الزمن؛ زادت التكلفة وارتفعت احتمالية التغيير، كما أنه سيرتبط بمدى استجابة الدول لمكافحة هذا الوباء، وشكل الدول الكبرى بعد تجاوز الوباء، فكلما زادت الفوارق في مقدرات الدول في التعامل معه وزادت الفوارق في التأثيرات المباشرة على اقتصاديات هذه الدول؛ كلما زادت احتمالية التغيير في النظام الدولي أكثر . ولكنه، وبشكل عام، يمكن التوقف على بعض العوامل الأساسية التي ستؤثر على السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة بعد كورونا وهي:
أولا: إن التداعيات المستقبلية القريبة لوباء كورونا ما زالت غامضة. وبالتالي، المحافظة الأمريكية على مناطق نفوذها العالمية التقليدية هو أمر ضروري لأمريكا في الفترة القادمة لمواجهة هذا الغموض.
ثانيا: يبدو أن منطقة الشرق الأوسط ما زالت تحظى باهتمام كبير لكل من الصين باعتبارها مصدر الطاقة الأساسي لها، ولروسيا باعتبارها منطقة تمدد للنفوذ الروسي خارج مجالها الحيوي. وبالتالي، أي انسحاب من المنطقة سيشكل فراغا ستملؤه قوى متأهبة لذلك.
ثالثا: الانعكاسات الاقتصادية لوباء كورونا على قطاع الطاقة النفطية الأمريكية إضافة إلى الصراع الروسي السعودي في سوق النفط، والتي أدى إلى انهيار أسعار النفط؛ مما أدى إلى خسائر كبيرة في قطاع النفط، وهذه الخسائر قد تنبئ بدمار هذا القطاع، علما أن تكلفة إنتاج برميل النفط في الولايات المتحدة الأمريكية هو 35 دولار أمريكي. وعليه، فاحتمالية عودة أمريكا لاستيراد نفطها من المنطقة أصبحت احتمالية عالية. وبالتالي، زادت أهمية المنطقة بالنسبة لها من جديد.
وعليه، يمكن القول إنها عوامل لها تأثيرات عميقة ومستمرة على مدى ليس بالقصير، وهذه العوامل لن تغير على المستوى التكيفي أو البرنامج أو الأهداف في السياسة الخارجية الأمريكية فقط، بل تداعياتها قد تمتد لتحدث تغيرا على مستوى التوجه الأمريكي في المنطقة خلال الفترة القادمة، وهو ما يمكن التحقق منه من خلال التطورات القادمة وموقف أمريكا من قادم الأحداث.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستدارة الأمريكية تجاه المراكز الرئيسية للتواجد الأمريكي في منقطة الشرق الأوسط، وهي: أفغانستان، والخليج العربي، والعراق، وسورية. فعلى مستوى الساحة الأفغانية استطاعت أمريكا من خلال اتفاقها مع طالبان على الخروج الجزئي من المستنقع الذي كانت قد أغرقت نفسها فيه. أما بالنسبة للخليج العربي؛ فيكفي الولايات المتحدة الأمريكية إعادة التأكيد على التزامها بأمن الأنظمة الحاكمة هناك حتى تضمن إعادة ترسيخ دورها بشكل قوي، وهو ما عملت عليه أمريكا من خلال زيادة تواجدها العسكري في المنطقة في الفترة الأخيرة.
وعلى مستوى الساحة العراقية فأمريكا تدرك أن موقعها الحالي في العراق مهدد. وخاصة بعد اغتيال سليماني بسبب التواجد الإيراني الكبير في العراق.
وفي الساحة السورية أيضا، فالولايات المتحدة الامريكية في موقع غير مريح بسبب التواجد العسكري الروسي المباشر والخلافات مع تركيا.
وعليه، فالولايات المتحدة الأمريكية باتت تدرك أن عودتها باتجاه التواجد القوي في هاتين الساحتين تستوجب إعادة بناء تفاهمات قوية مع حليفها الإقليمي وهو تركيا في مواجهة التهديد الإيراني، ولكن هذا الأمر سيصطدم في كل مرة بالموضوع الكردي، ولكن ربط الساحتين ببعضهما وضرورة إعادة بناء التفاهم مع تركيا بهدف ابعادها عن كل من روسيا وإيران قد يدفع أمريكا باتجاه الضغط على الأكراد للوصول الى تفاهم تركي – كردي لا يشمل سورية فقط بل سورية والعراق معا.