مقالات

في فهم اللحظة الأوكرانية

في عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي مخلفا خمسة عشر دولة اكبرها روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي ولكن التركة السوفيتية لروسيا الاتحادية لم تكن فقط المكانة السياسية وحق استخدام الفيتو بل أن التركة شملت حصرية امتلاك السلاح النووي الذي كان يمتلكه الاتحاد السوفيتي فبعد الانهيار كانت الأسلحة النووية موزعة على أراضي كلا من روسيا وبيلاروسيا وكازخستان وأوكرانيا وبهدف ضبط  هذا السلاح وخوفا من تداعياتها الكارثية رعت أمريكا وروسيا اتفاقية نقل جميع هذه الأسلحة الى روسيا وبذلك فقدت كلا من كازخسستان وبيلاروسيا وأوكرانيا أي قدرة ردعية، ولعل ما ساهم في سهولة حدوث هذا الامر طبيعية القيادة السياسية التي كانت تحكم روسيا ممثلة ببوليس يلسين الذي تبني نهج تغريب روسيا ولكنه فشل في ذلك وشهدت روسيا في زمانه انهيار اقتصادي وفشل عسكري داخلي تمثل في الهزيمة في حرب الشيشان الاولى هذه العوامل دفعت بتشكيل تيار سياسي جديد يتبني الطروح الاوراسي الجديد الذي جسد فيه ايفيغني بريماكوف الاب الروحي له سياسيا والكسندر دوغين المنظر الجيوبولتيكي الرئيسي والقائم على فكرة ان روسيا دولة لا شرقية ولا غربية بل هي دولة اوراسية أي انها دولة امبراطورية مجالها الحيوي المدى الجيوبولتيكي الاورواسيوي، وفي ظل هذا الظروف بزغ نجم رجل المخابرات القوي فلاديمير بوتين باعتباره حامل راية التغيير حيث استطاع بوتين اخضاع راس الدولة يلسين من اخلال انقلاب ابيض وأجبر يليسن على تسليم السلطة له وقد عمل بوتين خلال فترة حكمه وفق استراتيجية ثلاثة المراحل وهي

  • أولا: مرحلة إعادة البناء أو ما يسمى “عقيدة استعادة الدولة” 2000-2005
  • ثانيا: مرحلة بناء القوة العسكرية 2005- 2009
  • ثالثا: مرحلة تأكيد المكانة العالمية لروسيا الاتحادية “عقيدة فرض التوازن الاستراتيجي” بعد عام 2010

وقد صرح بوتين اكثر من مرة بشعوره العميق بالحزن والندم عن خسارة الاتحاد السوفيتي وبذلك يمكن ادارك ان إعادة امجاد الاتحاد السوفيتي بشكله السياسي كقوة موزانة عالمية وليست كنموذج ايدولوجي هو محدد رئيسي في التفكير البوتيني وقد تبني الروس في هذا المجال عقيدة إعادة جذب القوارب لتحقيق هذا الهدف من خلال إعادة جذب القوارب أي الدول التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي الى الميناء المركزي وهو موسكو ويدرك بوتين أن الثالوث المركزي في هذه المجال هي الدول الكبرى جغرافيا والتي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي وهم بيلاروسيا وكازخستان وأوكرانيا لذك فالسيطرة على هذه الدول هي غاية استراتيجية روسية لا يمكن التنازل عنها ولكن هذه المرة ليست بالسيطرة القسرية من خلال الاحتلال كما حصل سابقا مع الاتحاد السوفيتي فالروس تعلموا الدرس سابقت المتمثل بصعوبة السيطرة المباشر على شعوب وقوميات مختلفة مع الروس في الدين والعرق لذلك عمل الروس على السيطرة الغير مباشر من خلال دعم أنظمة سياسية موالية لموسكو والتدخل المباشر لحماية هذه الأنظمة عند الضرورة وهو ما قامت به موسكو في كلا من  كازخستان وبيلاروسيا عند وقوع اضطرابات هددت الأنظمة السياسية القائمة بها، ويدرك بوتين أن أوكرانيا هي الوحيدة التي بقيت تغرد خارج السرب بسبب توجهها السياسي للتحالف مع الغرب لذلك عندما شعر بوتين بانه قد يخسر أوكرانيا نهائيا بعد ثورة 2014 عمل على التدخل العسكري المباشر لاحتلال شبه جزيرة القرم وضمها لروسيا ودعم سيطرة مليشيات انفصالية على أجزاء واسعة من شرق أوكرانيا وقد عملت روسيا بعد عام 2014 على ترسيخ وجودها في كلا من شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وطبعا هذه التواجد لا يشبع الرغبة الروسية الاستراتيجية، والعالم يدرك ان هدف بوتين هو السيطرة على القرار السياسي في أوكرانيا سواء كان ذلك بالقوة العسكرية او التفاوض مع تفضيل الخيار الثاني لذلك عمل بوتين على جذي زيلنيسكي بعد تسلمه لسلطة في أوكرانيا ولكن ما قدمه بوتين لزيلنيسكي ليس أكثر من ان يصبح الصبي الحاكم في أوكرانيا في كنف الكرملين بل وقد لا يستغرب بان  يكون بوتين قد عرض عليه دعمه للبقاء في السلطة الى اجل طويل في حال التزاماه بأوامر الكرملين وهو ما يبدو ان زيلينسكي عجز عن تحقيقه لان طموحه هو نقل أوكرانيا باتجاه النموذج الحداثي الغربي وليس العودة بها الى كنف النموذج الروسي وعليه بدأت تزداد القناعة لدى بوتين بأن طريق القوة هو الطريق الذي سيتم سلكه لتحقيق الغاية الاستراتيجية، مستفيدا من تجاربه الناجحة في التدخلات الخارجية في كلا من جورجيا وسورية فمن التجربة الجورجية يدرك بوتين بانه قادر على دعم تشكيل دول جديدة على حدوده المباشرة ونموذج اوسيتا الجنوبية وابخازيا حاضرا كما ان التجربة السورية تعطي بوتين درسا مهما وهو ضرورة وجود غطاء قانوني متمثل في الطلب من حكومة قائمة التدخل العسكري الروسي كما حصل في سورية لذلك فخطوة الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك تقدمان لبوتين عناصر أساسية تخدم استراتجيته في إبقاء وشرعنة سيطرته الحالية على شرق أوكرانيا او حال قرر التوسع أكثر ولكن هناك درس اخر لا بد من ان بوتين يدركه أيضا وهو درس مستفاد من التجربة الأفغانية فطالبان هي حركة كانت منبوذة من كل دول العالم وحكومة اشرف غني كانت مدعومة من غالبية دول العالم ولكن عند سقوطها وتسلم طالبان السلطة كأمر واقع بات العالم مضطرا للتعامل مع هذا الواقع لذلك فسيبقى هدف تملك السلطة في أوكرانيا هدف يراود بوتين وقد تكون خطواته الأولى هي التوسع في مناطق سيطرة جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ولكن الهدف التالي سيكون حتما كييف للوصول الى الشرعية السياسية للدول الأوكرانية بالسيطرة على العاصمة السياسية فبوتين كما قلنا سابقا يريد احتلال القرار السيادي الاوكراني  اكثر من الاحتلال الجغرافي رغم ان الثاني سيوصله للأول حتما، وعلى الضفة الأخرى يبدو ان حكومة زيلينسكي والشعب الاوكراني سيدفع فاتورة لعنة الموقع الجيوبولتكي ولن يكون للأسف هناك امامهم خيارات جيدة كثيرة فامريكا والغرب يدعمونهم بكل الوسائل الممكنة ولكنهم عاجزين عن الدخول في حرب مباشرة مع الروس لأجل القضية الأوكرانية، وأمريكا باتت تدرك بشكل متزايد ابعاد الدرس الاوكراني بأن القادة الديكتاتوريين أصحاب الطموحات القومية كهتلر وستالين وموسوليني وبوتين يصعب ضبطهم او اقناعهم او التراخي معهم لان كل تراخي حاليا سيكلف أمريكا وحلفائها في المستقبل فاتورة اكبر وهو ما سيدفع أمريكا الى إعادة تبني استراتيجياتها السابقة في احتواء روسيا والضغط عليها اقتصاديا بل وربما اغراقها في مستنقعات مغامرتها العسكرية وفي النهاية روسيا تملك القوة العسكرية والقيادة السياسية متمثلة ببوتين ولكن الركن الأول لا يضمن للدول العظمى الاستمرار في دورها دون اقتصاد قوي والركن الثاني متغير لان يوتين يشكل خالة فردية وليس تيار سياسي منظم مما ينبئ بان المكاسب الروسية الراهنة ستكون رابحة ولكن على المدى الطويل قد تنقلب عليها ولكن للأسف بعد ان يدفع الأوكرانيين الثمن كما دفعوه دائما بعلاقتهم مع أبناء عرقهم السلاف الروس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى