سورية 2040… عشر قضايا حاسمة
يغلب في حياتنا التفكير وفق مدى زمني قصير دون التمحيص في الآثار بعيدة المدى، وقد يكون مرد ذلك لقدرتنا على إدراك القضايا سهلة الملاحظة، كما أن القضايا الطارئة والخطيرة تستولي على جل تفكيرنا، حيث يكون هناك دائما ظروف تعتبر لها الأولوية في نقاشاتنا ومداولتنا، ولعل هذا الأمر يعتبر من طرق التفكير العقلاني في العديد من الحالات، فمثلاً عندما يتعرض شخص لحادث وينقل للمشفى، يكون الشاغل الأساسي للطبيب المعالج وقف نزيفه وإنقاذ حياته دون البحث في الآثار المستقبلية لنتائج الحادث على المصاب، وعائلة الشخص المصاب يكون سؤالها الأول فيما إذا كان سيبقى على قيد الحياة؟ ولعل هذا المثال ينطبق على حالة الدول التي تعيش صراعات كسورية والتي يعتبر فيها إنهاء الصراع هو الشغل الشاغل دائما، لأن الصراع يشبه الجرح النازف الذي يجب إيقافه. وإذا ما راجعنا أغلب نقاشات السوريين خلال السنين العشر السابقة فسنجد أنها محصورة في هذا الإطار، إلا أن هذه المقالة تهدف إلى نقل النقاش باتجاه المستقبل البعيد متجاوزة عقدة الصراع الحالي، والذي دخلته البلاد نتيجة إجرام النظام، ورغم أهمية ومحورية طريقة إنهاء الصراع سواء كان بالتسوية أو بانتصار أحد أطراف الصراع أو بتجميده لمدة طويلة جدا، إلا أن هناك قضايا ستبقى تلقي بظلالها على مستقبل سورية متجاوزة في حيثياتها الصراع بحد ذاته، ولعل أبرز هذه القضايا ما يلي:
أولا: التفكك المجتمعي: فقد تشوهت طبيعة العلاقات بين المكونات السورية. وقد تكون هذه الحالة مختلفة نسبيا بين مكون وأخر، ولكن من شبه المؤكد أنه سيكون هناك أزمة في العلاقة العربية – الكردية، والعلاقة السنية – العلوية.
ثانيا: الفشل البنيوي للاقتصاد السوري: سورية اليوم هي دولة دون اقتصاد، وهي تشبه المريض الذي يعيش على السيروم، ولو تصورنا أن حلا سياسيا يرضي جميع السوريين تم فرضه غدا؛ فالواقع الاقتصادي لن يتغير على الأقل في المدى ما بين عقد إلى عقدين كما يرغب السوريون.
ثالثا: التجمعات الطرفية: تغيرت خريطة توزع التجمعات السكانية في سورية لتصبح تجمعات طرفية وليست داخلية مركزية، ففي السابق كانت سورية تعرف من خلال مدنها الداخلية الأربعة (دمشق – حمص – حماة – حلب)، لكن واقع اليوم يشير الى تركز سكاني طرفي أكثر سواء كان في الشمال الغربي أو الشمال الشرقي أو حتى الساحل، وهو ما قد يدفع باتجاه تكون فيه الارتباطات الاقتصادية لهذه التجمعات عابرة للحدود أكثر من كونها مرتبطة بالتجمعات الداخلية.
رابعا: الفقد الديموغرافي: غادر سورية حوالي 5.6 مليون سوري، ومع استمرار حالة الانهيار الاقتصادي فلا يستغرب أن يصل العدد خلال عقد من الزمن لحوالي 10 ملايين سوري، وبذلك فقد يصل مستوى الفاقد البشري لحوالي 35% من العدد السكاني، كما أن سورية لن تشكل خلال العقد القادم أو الذي يليه خيارا مرغوبا يدفع باتجاه عودة السوريين إلى سورية. وطبعا، هذا لا يعني بأن هناك نسبة ستعود تحت ضغط إجراءات بلدان اللجوء، ولعل انخفاض العدد السكاني يمكن أن يساعد في التخفيف من الضغط على الموارد إلا أن طبيعة الفئات التي هاجرت والتي يغلب عليها سمة الشباب والمتعلمين يولد من هذا الفقد تأثيرات سلبية.
خامسا: جيل بلاد المهجر: نتيجة الفترة الزمنية الطويلة التي قضاها وسيقضيها السوريون في بلاد المهجر سينتج جيل أصله سوري، ولكن ثقافته وحياته وارتباطاته ببلاد المهجر، هذا الجيل سيكون ثروة لسورية إذا ما تم الاستفادة منه، وهذا يرتبط بمدى ارتباط هذا الجيل بالبلد الأم ولكن المؤشرات على ما يبدو لن تكون مبشرة في هذا الصدد.
سادسا: التواجد الخارجي: يمكن القول بأن التواجد الأمريكي هو التواجد الوحيد الذي يبدو أنه تواجد طارئ في سورية ويرجح أن ينتهي مستقبلا أما باقي الدول فيبدو أن تواجدها سيكون طويل الأمد، ورغم أن التواجد الدولي قد يشكل فرصا يمكن الاستفادة منها إلا أن طبيعة العلاقات التصارعية بين الدول يمكن أن تبقي سورية ساحة لتصفية الحسابات، ويعتبر التواجد الإيراني هو الأخطر على الدولة السورية.
سابعا: إعادة الاعمار: تقدر قيمة إعادة اعمار سورية ب 400 مليار دولار، ويعتقد الكثيرون بأن هذه المبالغ ستكون متوفرة مع الوصول إلى حل سياسي، ولكن العالم اليوم بعد جائحة كورونا لم يعد بنفس السعة المالية لما قبلها، وباتت الدول التي تساهم في مشاريع إعادة الإعمار أقل اهتماما بالانخراط في مثل هكذا مشاريع خاصة في بلد هو مرشح لدورات عنف مستقبلية، وعليه، فملف إعادة الاعمار الذي يشكل فرصة مهمة يتوقع أن يبقى يسير في مسار بطيء، وليس كما يتوقع السوريون، حتى فكرة الاعتماد على الموارد النفطية والغازية الداخلية هي فكرة غير منطقية، فأغلب الدراسات تشير إلى محدودية الاحتياطات السورية وقد تم استنفاذ غالبيتها، ولعل هذه المحدودية ستجعل هذه الموارد عامل صراع داخلي بين السوريين.
ثامنا: تدمير البيئة: تقول مجلة “فورين بوليسي”: “الشرق الأوسط سيصبح “حرفيا” غير صالح لحياة البشر”، وإذا ما كان هذا حال المنطقة، فإن سورية مشكلتها أكبر، فقد تم تدمير نسبة كبيرة من الغطاء النباتي نتيجة الحرب، كما أن الإدارة السيئة سببت كوارث طبيعية مثل الكوارث البيئية في شرق الفرات نتيجة الإدارة السيئة للثروة النفطية.
تاسعا: جيل مدمر: شباب اليوم ممن هم في العشرينيات من العمر قد تأثروا على عدة مستويات نتيجة الصراع، وخاصة: تعليميا وصحيا وثقافيا. ولعل التأثر على المستوى التعليمي هو الأخطر، فسورية اليوم أمام جيل مشوه تعليما، مما سيؤثر وبشكل كبير على أي خطط للتنمية.
عاشراً: تنظيم داعش: رغم تلقي التنظيم هزيمة موجعة، إلا أنه لا يزال موجوداً، وهو يبحث عن فرصة لإعادة البزوغ، ولا يمكن تصور القضاء على التنظيم في المدى المنظور، بل يتوقع أن تبقى البادية السورية كمثلث برمودا، وهو ما سينعكس على الدولة السورية باعتبارها دولة غير مستقرة.
بناء على ما سبق، ورغم أهمية مسار وطريقة تسوية الصراع وتأثير ذلك على مستقبل سورية، إلا أنه يمكن القول أن سورية ستبقى تصنف كدولة فاشلة، خلال سنوات طويلة قادمة، إلا إذا توفرت إرادة داخلية ورعاية خارجية وازنة للعمل على إعادة إنعاش الدولة السورية. في حينها فقط يمكن تجاوز القضايا العشرة السابقة رغم أن هذا الأمر، وليس من باب التشاؤم بل من باب الواقعية، يبدو بعيد المنال.