الفشل السياسي سببه جاهلية سياسية
بعد انقضاء العام الأول من العقد الثاني لثورة حرية الشعب السوري وكرامته، لا يزال الفشل على كافة المستويات هو سيد المشهد، وهو ما يمكن إرجاعه إلى فشل سياسي في إدارة الملف.
فكثيرة هي كتابات السياسيين والمفكرين والكتاب السوريين، التي تحدثت عن أسباب ومسببات ذلك الفشل، وجلها عزاه إلى عوامل موضوعية، تتلخص في العامل الخارجي وتدويل القضية السورية وما خلفه من تبعية القوى والهياكل بل والأشخاص، أو على الأقل، ارتهانها وارتهانهم للداعم الخارجي والمال السياسي والمحاور والأجندات الدولية، وإلى سياق التدافع الإقليمي والدولي المصلحي على حساب المصالح الوطنية للشعب السوري ودولته السورية، وكذلك إلى عوامل ذاتية تتلخص ب”أنا الذات” و”أنا الجماعة الأيديولوجية” ومحاولة كل منهما الحفاظ على المصالح والمكاسب الآنية على حساب ال”نحن” الجمعية وعلى حساب المصلحة الوطنية العليا المشتركة التي جسدتها مبادئ الثورة وشعاراتها، والتي يتم تبريرها وإرجاع أسبابها أيضا إلى التصحر السياسي لنصف قرن من عمر الدولة السورية، هو نصف عمرها الزمني بالفعل، وهو عمر الحقبة الأسدية الكارثية، التي جعلت من الدولة السورية مجرد مزرعة للقائد، وجعلت من الشعب السوري العريق مجرد جموع من المصفقين والهاتفين بمآثره وخصاله وحكمته وعبقريته الفذة، وهو الذي استطاع وأد تجربة الحياة السياسية التي انطلقت عملياً في خمسينات القرن الماضي، يوم شاركت مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية المتنوعة في صياغة العقد الاجتماعي السوري وشرعت في بناء الهوية الوطنية السورية، ولكن تشكل تلك الهوية ما لبث أن توقف مع مرحلة الانقلابات العسكرية، مروراً بالتخلي عن الهوية الوطنية لصالح القومية، في عهد الوحدة القصير مع مصر، وصولاً إلى مرحلة الحزب الواحد والفكر الشمولي والقائد التاريخي ومنظومة القيم الاشتراكية المستوردة. لقد تم وأد التعددية الحزبية والحياة السياسية وحيوية التدافع الفكري والتدريب العملي الجماعي على إدارة الاختلاف والبناء على المشتركات والمصالح المشتركة المشروعة لأبناء الشعب الواحد المتنوع في أديانه وأعراقه واتجاهاته الفكرية السياسية، وذلك من خلال إقصاء بعض الاتجاهات واختراق وتدجين وتطويع الاتجاهات الأخرى في إطار جبهة الحزب الواحد وأحزابها التي تمجد القائد أكثر من حزب البعث نفسه.
والثورة بطبيعتها، إن كانت كذلك، هي فعل وعمل شعبي جماعي، لا يستطيع شخص أو حزب أو تيار ادعائه لنفسه دوناً عن الآخرين، ولكنه أيضاً فعل فوضوي غير منظم بالمعنى المعروف للتنظيم، وهذا الوضع من الفوضى يمكن تبريره في سني الثورة الأولى، ولكنه لم يعد طبيعياً ولا مبرراً بعد مرور كل تلك السنوات وتقديم كل تلك التضحيات.
ولعل ما افتقرنا إليه طيلة السنوات الماضية، هو العمل الجماعي “المنظم”، لا العمل الجماعي وحسب، فغياب التنظيم بمعناه الواسع هو ما أورث ذلك الفشل السياسي الواضح.
فعلى المستوى الجماعي، افتقرت الثورة وقواها إلى التنظيم في العمل الجماعي، سواء على المستوى الداخلي للهياكل والكيانات، التي حافظت على شخوصها، أو في العلاقة بين بعضها البعض. حيث افتقرت لآليات إدارة الاختلاف، وبقيت تتصرف بطريقة تجعل كل منها يمتلك ناصية الحقيقة وعين الصواب، وكل فريق بما لديهم فرحون. وعلى المستوى الفردي، بقي الأفراد عصيون على التأطير والتنظيم بل يرفضونه عملياً رغم مطالباتهم المتكررة به لفظياً.
تلك هي “الجاهلية السياسية” التي نعاني منها، والتي يبدو أن جيناتها ومورثاتها لا تزال تسكن عقولنا وتترجمها أفعالنا، في حين تنبذها ألفاظنا، في تناقض صارخ بين الأفعال والأقوال.
وتظهر تجليات تلك الجاهلية في منهجية الإسقاط التي لم تتوقف منذ بداية الثورة وحتى يومنا هذا، إسقاط كل هيكل وإسقاط كل شخص على مستوى الثورة والمعارضة، على الرغم من اتفاق الجميع على إسقاط النظام والانتقال السياسي، وذلك التناقض في الاتفاق والاختلاف يجعل سؤال “الانتقال إلى ماذا؟” سؤالاً مشروعاً.
ويبدو أن تلك المنهجية في الإسقاط لها جذورها التاريخية في زمن الجاهلية في البيئة العربية القبلية التي كانت تتمنّع على فكرة الدولة، وكان شعراؤها يفخرون بعدم خضوعهم لمنطق الدولة ومنطق السلطة والقانون والنظام. فبينما كانت شعوب الامبراطوريات المحيطة بالجزيرة العربية تسجد لملوكها، كان الشاعر العربي يقول: إذا بلغ الفطام لنا صبي يخر له الجبابر ساجدينا، وآخر يقول: من عهد عاد كان معروفا لنا أسْرُ الملوك وقتلها وقتالها.
ويبدو أن ذلك المنزع الفوضوي في الثقافة العربية لا تزال ملامحه موجودة إلى اليوم، وآية ذلك ما نلاحظه في حالتنا من تجاوز النقد لغايته في التصويب، إلى إسقاط كل كيان وكل شخص، في الوقت الذي تتكرر فيه الدعوة لظهور ذلك القائد المخلص الذي تلتف حوله الجماهير ويقود الدفة، كمؤشر على تمكن عقلية فردية القائد وفرادته في العقل الجمعي، وهي عقلية موروثة من زمن الجاهلية المعاصر في دولنا العربية، والذي يظهر حتى على مستوى الأحزاب السياسية القديمة والجديدة القائمة على الفرد الذي تضن عن أن تلد مثله الأمهات. فمن بقي في مؤسسات الثورة أو المعارضة متهم بذمته وبتبعيته للخارج حتى تثبت براءته، التي لن تثبت أبدا، ومن خرج منها متهم بالانكفاء والانشغال بالشخصي على حساب العام، وهو إن بادر بجهد لملء الفراغ سيسمع عبارات (اللي يجرب المجرب) و(نفس المقدمات بنفس الأشخاص تؤدي لذات النتائج)، و(من الذي أوحى إليك وأشار عليك بالمبادرة) و (هل تغير المزاج الدولي). ولا يقتصر الأمر على الشخصيات المعروفة، بل يمتد ليشمل شخصيات كانت فاعلة في هياكل وتجمعات محلية صغيرة أو كبيرة، فضلا عن استمرار الثنائيات الصفرية من مثل: ثوار داخل وثوار خارج، وثوار بنادق وثوار خنادق، وإسلامي وعلماني، وثورة ومعارضة، وسوى ذلك من تراشق لاتهامات لا تنتهي.
تلك الحالة من الجاهلية السياسية والتمنع على العمل الجماعي المنظم والمؤسسي الحيوي والمتجاوب، يعاني منها العقل الفردي والعقل الجمعي، النخبوي والشعبوي، على حد سواء، ولم يبرأ أحد منها إلا من رحم ربي.
لقد تغير مفهوم الدولة جذريا بعد الحربين العالميتين والتنظيم الدولي والمنظمات الدولية، وأصبحت ذات حدود واضحة المعالم وذات شعب واحد، مهما تنوع، يربطه عقد اجتماعي ومنظومة قيم اجتماعية وسياسية وحقوق وحريات والتزامات داخلية وخارجية.
ولقد آن الأوان، بعد تلك العشرية القاسية، للخروج من تلك الجاهلية السياسية، بالانتقال نحو العمل الجماعي “المنظم”، نحو نمط تفكير فردي، ومن ثم جمعي، يعترف بالاختلاف ويمتلك مهارة وفن إدارته، ويبني على المشترك الوطني الدولتي، ويسعى لإنتاج عقد اجتماع سياسي حقيقي إرادي وصادق، ينتقل بسوريا وشعبها من حالة اللادولة، إلى حالة الدولة ذات الحدود الواضحة، بلا ما بعد ولا ما دون، وذات الشعب الواحد المتنوع كمصدر لسلطة الدولة ومالك لسيادتها، أفراده متساوون بالحقوق والواجبات دون تمييز، يسودها القانون ويسمو فيها الدستور، يسمو بها شعبها وتسمو به، علنا ننتقل من حالة الإحباط والفشل السياسي إلى تثمير تضحيات الشعب وعطاءاته.