في ضرورة تفعيل “القضاء الإداري” في المناطق المحررة
د. أحمد قربي
في الآونة الأخيرة وقعت ثلاثة أحداث متفرقة حدث حولها الكثير من النقاش وتحولت إلى قضية رأي عام: الأولى قضية الدكتور عثمان حجاوي الذي تعرض للفصل من عمله، ومنع من مزاولة مهنة الطب بقرار من مدير المشفى الذي يعمل فيه، والثانية قرار جامعة حلب الحرة بزيادة رسوم الطلاب، وبعدها قرار المجلس المحلي في مدينة الباب الذي فرض على الإعلاميين الترخيص المسبق لمزاولة المهنة، ليتراجع لاحقاً عن هذا القرار.
الجامع المشترك بين هذه الحالات الثلاث أن هنالك مواطنين في تخصصات ومجالات مختلفة يدّعون أن هنالك قرارات صادرة عن السلطات القائمة مست أحد حقوقهم الأساسية؛ الأول حقه في ممارسة المهنة، والثاني حقوقهم في التعليم بشكل ميسر، والثالث حقوقهم في ممارسة حرية الصحافة.
بعيداً عن التفاعل الإعلامي والشعبي الذي حصل مع هذه القضايا، وهو لاشك أحد أهم المكتسبات للثورة السورية، التي فتحت المجال العام أمام أفراد الشعب السوري للتعبير عن آرائهم والمطالبة بحقوقهم، وبغض النظر عن النتائج الناجمة عن هذا الحراك سواء أكانت إيجابية أدت إلى التراجع عن هذه القرارات المُدعى أنها تنتهك الحقوق والحريات لفئات أو أشخاص محددين، أو سلبية بقيت بموجبه هذه القرارات قائمة، ولم يستطع الأفراد المعنيون إلغائها والتخلص من مفاعيلها، قد يتساءل البعض ألا توجد وسيلة أخرى متاحة لإيقاف مثل هذه القرارات وإلغائها؟ أو على الأقل جهة محايدة ومستقلة تنظر في مدى مشروعية هذه القرارات؟
في حالة الدول المستقرة، تتعدد صور الرقابة التي تخضع لها أعمال الإدارة بين رقابة سياسية يمارسها الرأي العام والأحزاب والبرلمان، ورقابة ذاتية تقوم بها الإدارة ذاتها، ورقابة قضائية يمارسها القضاء بوصفه الجهة المستأمنة على الحقوق والحريات في حال تجاوزت السلطةُ النصوصَ القانونية.
في المناطق المحررة، وعقب انطلاق الثورة، ونتيجة غياب المؤسسات كان هنالك غياب جزئي للرقابة السياسية المتمثلة برقابة الأحزاب والبرلمان، والرقابة القضائية بحكم ضعف هذا الجهاز وارتباطه سابقاً بالفصائل العسكرية، وبقاء الرقابة الشعبية ممثلة بالرأي العام، التي أثبتت في كثير من الأحيان فعاليتها.
إلا أنه بعد مرور عشر سنوات على الثورة السورية، وطالما نتحدث عن أن طموح السوريين كان وما يزال إلى جانب ضمان حرية الرأي والتعبير، وتفعيل الرأي العام، هو بناء دولة المؤسسات، فيفترض تفعيل جهة مؤسسية تسند لها مهمة التأكد من مشروعية القرارات الصادرة عن الإدارة، وهو ما يتعارف الفقه القانوني في بلادنا على تسميته بـ “القضاء الإداري” الذي يختص بنظر المنازعات التي يخاصم فيها الأفراد قراراً صادراً عن الدولة ومؤسساتها، فمثلاً في الحالات السابقة، يمكن أن يبادر الطبيب عثمان حجاوي إلى القضاء ويطالب بإلغاء القرار المجحف الصادر بحقه، وكذلك يمكن للطلاب أو الاتحاد الممثل لهم رفع دعوى يطالبون بإلغاء قرار جامعة حلب الحرة القاضي برفع رسوم التسجيل، وكذلك يمكن للإعلاميين مخاصمة المجلس المحلي ومطالبة القضاء إلغاء قراره بفرض الترخيص المسبق للإعلامي.
يفترض أن القضاء الإداري موجود وقائم، ولا يحتاج تفعيله إلى نصوص قانونية لأنه مستمد من حق أساسي مضمون لكل إنسان هو: الحق في اللجوء إلى القضاء، ولكن ثمة تحديات تقف أمام تفعيله من أهمها: ضعف مؤسسات الحكم القائمة في المناطق المحررة، والذي انعكس بدوره كذلك على المحاكم والقضاء القائم في تلك المناطق، أدى إلى انخفاض ثقة الأفراد بالقضاء بشكل عام واعتقادهم بعدم جدوى اللجوء إلى القضاء، وخصوصاً إذا تعلق بمنازعة مع إحدى مؤسسات الحكم القائمة كالحكومة السورية المؤقتة أو المجالس المحلية أو الجيش الوطني أو المؤسسات الأمنية، كل ذلك نتيجة رسوخ فكرة سابقة من حقبة نظام الأسد مفادها أن الدولة فوق الجميع، بما في ذلك القانون.
إذا كانت هذه أبرز تحديات تفعيل القضاء الإداري في المناطق المحررة، فبالمقابل ثمة “روافع” يمكن أن تسهم إيجابياً في تفعيل هذا القضاء، من أهمها: عدم طغيان “السلطة التنفيذية” بعد في المناطق المحررة، وبالتالي هي فرصة للقضاء الإداري لإثبات وجوده وتثبيت مفهوم سيادة القانون على الجميع بما فيه السلطة، وقوة الرأي العام الذي سيكون خير داعم للقضاء الإداري حال تصديه لأي انتهاك تقوم به السلطة التنفيذية. إلى جانب هذه الرافعة، ثمة رافعة تاريخية ودينية وهي أن هذا القضاء هو امتداد لفكرة “قضاء المظالم” الذي يهدف إلى رد المظالم وإنصاف المظلومين من ظلم الحاكمين أو اعتدائهم.
تفعيل هذا القضاء في المناطق المحررة، والموجود أساساً في البنية القانونية والمؤسسية للدولة السورية، سيعزز الثقة بالمؤسسة القضائية، ويقدم نموذجا مختلفا -في حال نجاحه- عن نموذج نظام الأسد حيث أن القضاء خاضع بصورة أو بأخرى للسلطة التنفيذية، كما سيشكل مع رقابة الرأي العام أحد الضمانات المهمة لحقوق الأفراد وحرياتهم.
إذن، هي دعوة لمؤسسات الحكم القائمة في الشمال السوري لتفعيل هذا القضاء وأخذ دوره المرجو، وكذلك دعوة لمنظمات المجتمع المدني السورية ونقابات المحامين الحرة العاملة في الشمال لتوعية أهلنا وشعبنا بدور هذا القضاء الذي نأمل أن يكون حامياً وحصناً للحقوق والحريات.