مقالات

العصابة تأكل أعضاءها

ربما يذكر البعض تصريح فاروق الشرع في بداية الثورة أن بشار الأسد سوف يلقي كلمة تصالحية تعجب الجميع، والتي اتضح وقتها أن فاروق الشرع كان يتحدث عن وجهة نظره التي اعتقد أنه أقنع بها بشار الأسد، متغافلا عن وجود وجهة نظر أخرى ترفض تقديم التنازلات وتفضل الخيار الأمني على أي خيار آخر. وبالفعل جاءت الكلمة محبطة ومخيبة للآمال ومفاجئة، خصوصا وأن أغلب السوريين انتظر الكلمة بلهفة شديدة بعد التصريح الذي أدلى به فاروق الشرع.

أظهر الخطاب وقتها أن وجهة نظر الصقور – إن جاز التعبير – قد انتصرت على وجهة نظر الحمائم التي يمثلها فاروق الشرع، فالشرع كان يرى أن التغيير قادم لا محالة، وإن لم نذهب إليه سوف يفرض علينا. أما وجهة النظر الأخرى والتي تمثلها الدائرة الضيقة حول بشار الأسد، والتي يمكن تسميتها “بأعضاء العصابة الحاكمة”؛ فهي تنطلق من وجهة النظر القائلة: إن الاستجابة لمطالب الحراك سوف تظهر النظام بمظهر الضعيف، فالمطالب ككرة الثلج لا تلبث أن تكبر وتزداد حجما إلى أن يصبح هدفها اقتلاع النظام، سواء من خلال الحراك الحالي أو في المستقبل القريب، وهو ما سوف يعني سقوط مبدأ السلطة إلى الأبد كحد أدنى.

 وبعيدا عن الخوض بالتفاصيل، تحول الحل الأمني إلى حرب، حرب حقيقة مضى على انطلاقتها ما يقارب العشر سنوات وهي لم تتوقف حتى الآن، ومعروف أن قرار الحرب يعتبر الملاذ الأخير لمتخذي القرار، حيث يتم اللجوء إليه بعد استنفاذ البدائل الأخرى وفشلها في حل القضية موضع النزاع، ويرجع السبب في ذلك إلى ارتفاع تكلفة الحرب التي تكون في معظم الأحيان أعلى من قيمة الهدف، والتكلفة بالذات هي ما يجب التوقف عنده، وخصوصا في جانبها الاقتصادي. فمن أين جاء النظام بكل هذه الأموال لتغطية تكاليف حرب بهذا الحجم؟

منذ أيام قليلة ذكرت الخارجية الأمريكية أنه منذ عام 2012 قدم النظام الإيراني للأسد أكثر من عشر مليارات دولار من أموال الشعب الإيراني. حيث تعتبر إيران الداعم الأول لهذا النظام، وإذا افترضنا جدلا أن المساعدات التي تلقاها النظام السوري من إيران وغيرها تصل إلى ضعفي هذا المبلغ، يبقى مبلغ ثلاثين مليار دولار غير كاف لتغطية ربع تكاليف هذه الحرب، فعلى مدى سنوات الثورة كان النظام يدير المناطق الواقعة تحت سيطرته من خلال اقتصاد منهار وعجلة الإنتاج شبه متوقفة، حيث تحولت اليد العاملة إلى قطاعات مستهلكة غير منتجة، من جيش وأجهزة أمنية وميليشيات مساعدة، وحتى دوائر الدولة التي توقفت في غالبيتها عن العمل مازال النظام ملتزما بدفع رواتب موظفيها لإبقائهم مرتبطين به، وإذا أضفنا إلى ذلك ثمن المعدات العسكرية والذخائر المستوردة، والمواد الأولية اللازمة للتصنيع العسكري تكون الصورة أصبحت أكثر وضوحا. وتزداد الصورة وضوحا إذا علمنا أن النظام فقد السيطرة على منطقة الجزيرة في سوريا حيث تتركز معظم آبار النفط وحيث الموارد الزراعية الأهم، كما تراكمت عليه العقوبات الاقتصادية المرهقة، خاصة من قبل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي. بالمختصر، كان النظام خلال سنوات الثورة ينفق الأموال على قوى إنتاجها  الوحيد  تثبيت كرسي الحكم. أي، كان ينفق دونما موارد  حقيقية تذكر. وعلية،  يبقى السؤال عن مصدر

الأموال التي أنفقها وما زال ينفقها قائما. من خلال العودة بالذاكرة إلى بدايات الثورة يمكن أن نتذكر كيف أن النظام ومن خلال فروعه الأمنية بدأ يكلف بعض رجال المال والأعمال بإدارة دفة ما تبقى من القطاع الخاص وبما يشير إلى أن النظام كان منذ البداية يعد العدة لحرب طويلة تحتاج الكثير من الأموال، كما تشير للعقلية التي ينطلق منها هذا النظام، فالبلد ملكه، وكل من جمع مالا أو أصبح ثريا إنما جمع أمواله من هذا البلد ومن خلال أجواء الفساد التي أشاعتها السلطة. وعليه، لولانا (النظام) لكنتم لا شيء، فاذكروا نعمتنا عليكم.

وعقلية العصابة في ابتزاز عمالها وأتباعها – وأحيانا أكلهم أو افتراسهم – ليست وليدة اللحظة، بل هي السمة العامة لسلوك النظام منذ أمد بعيد، ويقصد بالعمال والأتباع: كل شخص ضمن قائمة طويلة تبدأ من نائب الرئيس ورئيس الوزراء، وتنتهي عند أصغر موظف منخرط بأنشطة فساد. فعدد القضايا التي أثيرت حول هؤلاء، والتي جعلتهم يدفعون معظم ما سرقوه أكثر من أن تحصى، ويستطيع السوري تذكر العديد من الأسماء التي كانت في يوم من الأيام في القمة ثم ألقيت إلى السفح. هكذا العمل مع العصابة؛ إنه عمل خطير وخطير جدا.

إذن، أكل الأتباع سلوك قديم قدم استيلاء هذه العصابة على الحكم، لكن الجديد – والذي يبشر بكل خير – أن العصابة بدأت تأكل أعضاءها، فرامي مخلوف الذي ظهر مؤخرا في تسجيل مصور شاكيا متباكيا ومنكسرا لا يمكن تصنيفه بأي شكل من الأشكال إلا كأحد أعضاء العصابة البارزين، وبغض النظر عن الملابسات والتفاصيل التي دعت رامي مخلوف لإخراج الخلاف إلى العلن، فإن القضية لا تعدو عن كونها قضية ابتزاز وربما التهام لأحد أعضاء العصابة البارزين، وهو مؤشر مهم. فمثل هذه الوجبات لا يتم اللجوء إليها إلا في أحلك الظروف، أو قبل النهاية بلحظات، ومن ثم انتظار حكم القدر، وحكم القدر يبدو أن ملامحه بدأت تتكشف، ويبدو أن العصابة ستتذوق الكأس الذي سقته لأتباعها، فهم سينفقون القسم الأكبر مما اختلسوه من أموال الشعب قبل أن يغادروا مهزومين أمام عجلة التاريخ التي لم يستطع أحد قبلهم إيقافها، لكن الصلف والغرور يدعو البعض للاعتقاد أنهم استثناء.

 ربما لم يتوقع أحد السوريين أن يرى رامي مخلوف يتكلم بهذا الشكل، وربما لاحظ الجميع كم كان مرهقا وهو يحاول أن يتكلم بلغة دبلوماسية لم يعتد عليها قط، لغة تفاعل معها الشعب السوري المقهور بمزيد من السخرية والشماتة مصحوبة بأمل بظهور مشابه لرئيس العصابة، والتوقع أو التفاؤل بظهور لرأس العصابة بطريقة تشبه إلى حد كبير الظهور الذي يثير الشفقة لرامي مخلوف ليس توقعا غريبا، فخزائن الدولة قد أفرغت، والأصدقاء استنزفوا، والخطر أصبح محدقا، والعصابة دخلت في الربع ساعة الأخير، دخلت في مرحلة أكل أعضائها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى