الدولة السورية المطلوبة بين المعايير الحديثة والممكنات الواقعية
1- مقدمة:
الدولة السورية الحديثة هي اليوم الهدف الأكبر الذي يسعى لتحقيقه السوريون رغم كل العقبات التي تعترض طريقهم، وكل الباهظة التي دفعوها في هذا السبيل.
هذه الدولة المنشودة من السهل تعريفها بتعريف عام، والقول أنها “الدولة الوطنية الديمقراطية”، ولكننا في هذا التعريف نجد أننا أمام دالّ مبسط ولكنه بنفس الوقت معقد الدلالة، و”الدولة الديمقراطية” يمكن أن تغدو مصطلحا فضفاض المعنى، وجهوي الرؤية، بحيث يغدو غطاء أو وسيلة تستخدم لتغطية وتمرير المآرب الخاصة.
لذا لابد من وقفة نقدية دقيقة عند مصطلحي “الدولة الحديثة” و”الدولة الديمقراطية”، والسعي فيها لاستبيان وبيان معايير هذه الدولة من جهة، وقابلية تحقيق هذه المعايير بشكل فعلي في الواقع السوري الراهن.
2- ما هي معايير الدولة الحديثة؟
هذه المعايير تطورت عبر قرون من النهضة الغربية الحديثة التي استفادت بدورها من الحضارات التي سبقتها، ويمكن أن نستقرئ هذه المعايير اليوم بشكل مباشر من الخصائص المعيارية التي تتصف بها الدولة الحديثة في التجارب السياسية المتقدمة، بصرف النظر عن مدى توافق تطبيقها العملي مع معاييرها النظرية في هذه التجارب، وهذه الخصائص هي بشكل رئيس: الديمقراطية، ضمان حقوق الإنسان، العلمانية، الاجتماعية، الليبرالية، الأممية، اللاحزبية، المساواة، واحترام الكفاءة؛ ويمكن اعتبارها معايير الدولة الحديثة.
إذًا يمكننا القول نظرياً أن الدولة الحديثة يجب أن تتصف بكل تلك المعايير التي تم ذكرها، فيما تكون الدولة فعليا حديثة بقدر ما تكون تلك المعايير محققة فيها.
وإذا ما نظرنا إلى الغرب الحديث، فيمكننا القول بشكل عام، أن هذا الغرب قد قطع شوطا كبيرا في التقدم على طريق تطبيق هذه المعايير، وبنفس الوقت يمكن القول أن درجة تحقق تلك المعايير عمليا تختلف بين معيار وآخر.
وهذا ما سنتناوله بالشرح والتوضيح في الفقرات التالية، التي سيتم فيها بنفس الوقت النظر إلى كل معيار من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية غربيا، ومن الناحية الإمكانية سوريا.
2.1- الديمقراطية:
بمفهومها الموسع تفهم الديمقراطية في عالمنا المعاصر كنظام شامل متعدد الجوانب، ومتضمن لأفضل المعايير التي يجب أن تتوفر في الدولة الحديثة، ما يؤدي في المحصلة إلى التطابق بين مفهومي “الدولة الحديثة” و”الدولة الديمقراطية”؛ لكن بمفهومها الضيق تعني الديمقراطية حصريا “حكم الشعب”، أي أن يكون الشعب هو نفسه الحاكم، أو صاحب السلطة، فلا يحكمه أي فرد أو زمرة من الأفراد، ومن المفروض في حكم الشعب أن يكون هو الأفضل للشعب وأن يخلصه من تسلط واستغلال الفرد والقلة، وأن يجعل عملية الحكم موظفة لما فيه مصلحة كل الشعب، التي تـُضمن فيها أيضا مصلحة كل فرد من أفراده.
لكن ما الضمان أن حكم الشعب سيتحقق فيه كل هذا؟
وأن حكم الشعب سيعدل بين أفراد الشعب ويضمن كافة حقوقهم وحرياتهم؟
من بديهيات الأمور أن أي شعب إن حكم فهو لن يستطيع أن ينتج حكما يتجاوز درجة تطوره ومستوى تقدمه، فشعب متشدد دينيا أو قوميا أو ذكوريا سينتج حكما دينيا أو عنصريا أو ذكوريا، وشعب لا يمتلك الوعي المعرفي العقلاني والعلمي، ويفتقد إلى الثقافة الإنسانية العقلانية، لا يمكنه أن يحكم بشكل عقلاني يحترم حقوق وحريات الناس ويقيّمهم ويوظّفهم في مواقع المسؤولية والعمل على أساس كفاءاتهم؛ وبالتالي فبدلا من الحكم الصالح المفترض، سينتج هذا الشعب إما “ديكتاتورية أغلبية” أو “حكومة دهماء”(ochlocracy) أو حالة “فلتان سلطوي”، وسيكون حكمه في المحصلة أسوأ من ديكتاتورية الفرد أو الزمرة.
فماذا لدينا على أرض الواقع؟
في الغرب الحديث وسواه من المجتمعات المتقدمة، تطورت الشعوب اجتماعيا بما يكفي لتجاوز أخطار ديكتاتورية الأغلبية وحكم الدهماء والفلتان السلطوي، ولاسيما أن هذا التطور طال مفهوم الديمقراطية نفسها وأخرجها من نطاق مفهومها الضيق كـ “سلطة شعب” إلى مفهومها الموسع، المرتبط بشكل غير محدود مع الحداثة ومفاهيم ومعايير الحداثة، الذي تصبح فيه “نظاما اجتماعيا سياسيا شامل الجودة”.
وهكذا فقد تحولت الديمقراطية في الغرب إلى مسلمة من مسلمات السياسية والحكم، وحسم أمرها إيجابيا بشكل نهائي، وتم إرساء البنى الديمقراطية للدولة، ووضع آليات العمل التي يفترض فيها دمقرطة السياسية والحكم وتحقيق حكم الشعب؛ وهذا كله تم بشكل جيد من ناحية الشكل، لكن الأمر لم يكن كذلك من ناحية المضمون، والأداء، والذي حصل في الغرب أن الممارسة الديمقراطية كانت أشبه بمطحنة حسنة التصميم، ولكن ما يطحن فيها ليس القمح الصافي، بل القمح المخلوط بالكثير من الزيوان، بل الذي يغلب عليه الزيوان، والمشكلة ببساطة ترتبط بشكل رئيس بهيمنة الرأسمالية على الديموقراطية ورسملتها، وتحويلها إلى “رأسمالوقراطية” غير مباشرة.
أما سوريّا، فقد كان لدينا تجربة واعدة في الخمسينات، وقد تمكن فيها الشعب السوري من إقامة دولة توفرت فيها العديد من حيثيات الديمقراطية، مثل التعددية السياسية، وتداول السلطة، واستقلال الإعلام، وحرية الاعتقاد، وسوى ذلك، لكن هذه التجربة انتكست بسبب مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، ومن أهمها داخليا أن تطور الثقافة الديمقراطية على مستوى الساحة السورية ككل كان ما يزال غير كاف بعد، فالحكم الاستبدادي كان ما يزال مقبولا، والمشاركة السياسية كانت ما تزال ضعيفة ولاسيما في الأرياف، وحتى القوى السياسية لم تكن الديمقراطية بالنسبة لها هدفا أساسيا، وكانت مشاركتها في العملية الديمقراطية تكتيكية أكثر منها استراتيجية، ولذا سرعان ما انقلب “حزب البعث” -مثلا- على الديمقراطية عندما أتيحت له الفرصة وأنتج حكمه الحزبي الاستبدادي الذي ما زلنا نعاني من عواقبه الوخيمة حتى اليوم، وقد حدث هذا بعد أن تم قبله التضحية بالديمقراطية السورية لصالح دولة الوحدة الديكتاتورية، التي سرعان ما سقطت بسبب افتقادها للمقومات اللازمة للبقاء.
واليوم هناك أمور قد تطورت إلى الأفضل في المجتمع السوري، ومنها أن الديمقراطية أصبحت هدفا مجمعا عليه عند كافة القوى السياسية، ومن ناحية أخرى هناك أيضا قدر كبير من الحداثة قد دخل المجتمع السوري منذ تلك الآونة وحتى اليوم، وثمة اليوم قدر كبير من الانفتاح على العالم، وهذا ما باتت تساعده فيه بشكل مؤثر ثورة تكنولوجيا الرقميات والاتصالات في الآونة الأخيرة، لكن بالمقابل، وبعد عقود من الديكتاتورية، أصبح الشعب السوري فاقدا للتجربة السياسية، وهناك فراغ سياسي كبير على الساحة السورية في وقت تنشر فيه السلفية في كل المنطقة، ما يجعل الإسلام السياسي هو الطرف الأقوى وبأرجحية كبيرة على شغل هذا الفراغ، والأدهى من كل ذلك هو بالطبع الكارثة المدمرة التي وقعت فيها سوريا بعد أكثر من عقد من الصراع، الذي تم تدوليه، وأصبح الحل السوري فيه مرهونا بالإرادات والمصالح الأجنبية.
2.2- ضمان حقوق الإنسان:
في الدولة الحديثة، تعتبر حقوق الإنسان أهم الواجبات التي يجب أن تضمنها هذه الدولة، وهذه الحقوق هي حقوق محسومة الإقرار، وغير قابلة للتصرف، ولا يمكن الجدل فيها والاختلاف في وجهات النظر حولها، أو القبول بجزء منها ورفض سواه، فضمان هذه الحقوق المتكاملة هو فعليا ضمان لإنسانية الإنسان، وهذه الحقوق نفسها منبثقة من جوهر الإنسان كإنسان، ومرتبطة بشكل جوهري وكلي بهوية الإنسان كإنسان.
في المجتمعات الغربية الراهنة تم إحراز تقدم كبير في هذا المجال، ومنظومة حقوق الإنسان قد حصلت فيها على الاعتراف والإقرار الرسميين، ولكن هذا لا يعني أن هذه المسألة قد حلت واقعيا بشكل كامل، والنواقص فيها ما تزال عديدة وكبيرة في أحيان عديدة، وهذا عائد اليوم بشكل رئيس إلى التفاوت الطبقي الحاد وهيمنة المصالح الخاصة في الرأسمالية المعاصرة، وهذا ما ينعكس سلبا على العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، ويبقي قطبية “المتخم والجائع” أو “المترف والمحروم” حاضرة بقوة في هذه المجتمعات، رغم المحاولات التي تبذل للتخفيف من حدتها؛ وإضافة إلى ذلك هناك بدرجة أو بأخرى استمرارية للمواريث القديمة الطالحة، مثل التمييز العنصري ضد غير البيض في الولايات المتحدة، والإسلاموفوبيا في الغرب بشكل عام، وحتى التمييز الجندري ضد النساء ما يزال قائما إلى حد ما، ففي أحيان عديدة مثلا يتم منح المرأة أجرا أقل من أجر الرجل عند مزاولة نفس العمل.
وبالنسبة لسوريا، فمن حيث المبدأ العام فكرة “حقوق الإنسان” ليست غريبة أو مرفوضة في المجتمع السوري، ولكن مع ذلك هناك استثناءات جدية في هذه المسألة، منها قضية المساواة بين الجنسين، التي ما يزال المجتمع المتدين المحافظ لا يقبل فيها المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وهناك أيضا تقييدات على بعض الحقوق الليبرالية التي تتعارض مع الأخلاقية المحافظة، كما أنه ثمة تقييدات اجتماعية وعقائدية مرتبطة بالدين، منها مثلا زواج المختلفين وحرية التدين العلني والمعترف به بأديان غير الأديان المتعارف عليها كأديان سماوية، وهناك أيضا إشكاليات مرتبطة بالمسألة القومية؛ وهكذا نجد مثلا أنه في المجتمع السوري ما تزال المرأة غير مساوية للرجل في الزواج والميراث والشهادة القضائية وولاية أمر الذات وسواها، ولا يمكن للمسيحي أن يتزوج مسلمة، وهناك طوائف لا تقبل بالزواج من الغير لكل من رجالها ونسائها، وما تزال فكرة أن يكون الحاكم غير مسلم مرفوضة، وثمة إصرار على إعطاء الدولة هوية دينية إسلامية وقومية عربية بالرغم من التعدديتين الدينية والقومية في هذا المجتمع.
وخلاصة الأمر في هذه المسألة هي أن قضية حقوق الإنسان في المجتمع السوري، تبقى مؤطرة بالثقافة السائدة، التي ما يزال يهيمن عليها الدين والعرف السائدين، وفيها الكثير من المورثات القديمة التي لم تعد تناسب الإنسان الحديث، ما يعني على أرض الواقع أن ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع السوري ما تزال غير واسعة وغير عميقة، وما تزال تحتاج إلى الكثير من الجهد لتصل إلى المستوى المطلوب.
2.3- العلمانية:
بمفهومها الضيق، العلمانية هي الفصل بين الدين والدولة، وتأتي ضرورة هذا الفصل سياسيا بشكل رئيس من سببين، أولهما هو “حيادية الدولة”، حيث يجب أن تكون الدولة واقعة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، وعندما تتخذ الدولة دينا محددا، فهذا عندها سيخل بحيادية الدولة، ما يعني في النتيجة الإخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين، وتحول الدولة، التي يفترض فيها أن تكون دولة جميع المواطنين، إلى دولة جهوية وفئوية، وعندها سيحس المختلفون دينيا بأن هذه الدولة ليست دولتهم، هذا إذا لم يتعرض هؤلاء المختلفون على أرض الواقع إلى التمييز والانتقاص والتهميش وربما الاضطهاد بسبب الاختلاف العقائدي.
أما السبب الثاني، الذي لا يقل أهمية عن السبب الأول، فهو “وظيفية الدولة”، فعندما تكون الدولة غير منفصلة عن الدين، فسيصبح الدين هو المرجعية النهائية لهذه الدولة وليس العلم، وهذا يعني أن رجال الدين وليس أهل العلم هم من سيكونون أصحاب القرار في المسائل التي يحدث فيها خلاف بين الدين والعلم، أو بين رجال الدين وأهل العلم، وبالتالي لن يكون القرار في مثل هذه الأمور علميا وتخصصيا، وهذا ما يجعل هذا القرار معرضا بشدة لاحتمالات الخطأ وفقد الصحة كليا أو جزئيا.
في المجتمعات الغربية، هذه المسألة قد حسمت بشكل نهائي لصالح الفصل بين الدولة والدين، ولكن هذا الفصل لا يعني قطعا وقوف الدولة ضد الدين، بل على العكس من ذلك تماما، فالدولة العلمانية هي نفسها تحمي وتضمن حقوق مواطنيها الدينية والمعتقدية، وتتيح الإمكانية الكافية والمتساوية للجميع بأن يتدينوا ويعتقدوا كيفما شاؤوا وبما شاؤوا دون أن يتعرضوا إلى أي اضطهاد من قبل غيرهم لهذا السبب، كما يحدث في الدولة الدينية عادة، والمطلوب من هؤلاء المتدينين في الدولة العلمانية الحديثة هو فقط التدين بشكل سلمي لا ينجم عنه قطعا أي عنف أو ضرر، والتدين بما يتوافق مع قوانين هذه الدولة.
في سوريا، مسألة الفصل بين الدولة والدين ما تزال غير ممكنة وغير مقبولة بسبب سعة وشدة التدين في اللحظة الراهنة، وهذا بالطبع له مفاعيله التي تتناقض في مسائل حساسة مع المعايير الحديثة مثل المساواة بين الجنسين والمساواة بين المختلفين عقائديا، وعدم وجود تقييدات دينية مفروضة على الزواج والاعتقاد، وغيرها.
لكن مع ذلك، فالمجتمع السوري بشكل عام هو مجتمع وسطي في تدينه، ورغم ما فيه من تقييدات دينية ففيه لا يُضطـَهد الناس لأسباب دينية، والفوارق بين المختلفين دينيا في أغلبها هامشية، والمشكلة الرئيسة في تدهور حال حقوق الإنسان في المجتمع السوري قبل الانتفاضة لم تكن في التمييز الديني بل في متلازمة الاستبداد والفساد التي هيمنت على المجتمع السوري منذ عقود ولم يتخلص منها بعد حتى الآن؛ ويضاف إلى ذلك بعد الانتفاضة الدور الخطير الذي تمكنت الحركات الإسلامية المتطرفة من لعبه بسبب ما أتيح لها من ظروف مناسبة داخلية وخارجية؛ وبالطبع فالتدهور الأكبر في حقوق الإنسان يرتبط اليوم بمفاعيل النزاع المدمر الذي استمر لأكثر من عقد.
2.4- الاجتماعية:
الاجتماعية تعني أن الدولة ملزمة بضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها، وأن واجبها التدخل في الاقتصاد لتحقيق المصلحة العامة وضمان العدالة الاجتماعية والرعاية الاجتماعية للمحتاجين من مواطنيها، والغاية من ذلك الحفاظ على الحدود المقبولة من شروط العيش الكريم لجميع مواطني هذه الدولة.
وهذا المنظور في الغرب الحديث لا يعتبر متعارضا مع الرأسمالية، بل ولا حتى مع استقلالية عمل السوق، بحيث لا يُـفهم تدخل الدولة في الاقتصاد بأنه تدخل مباشر في عمل السوق، بل يفهم بأنه قيام الدولة بوضع الإطار الخارجي لعمل السوق الذي يفترض فيه أن يضمن أن تعمل السوق بالشكل الذي يحقق ويضمن مصلحة المجتمع، مع حفاظ هذه السوق بنفس الوقت على استقلاليتها.
في واقع الأمر هذه المسألة في الغرب هي الأسوأ من ناحية الإنجاز، فليست الدولة فعليا هي من يضبط عمل السوق ويوجهه، ولكن بالعكس، بل ويمكن حتى القول أن السوق هي من يتحكم بالدولة ويسيطر عليها، وهذا ليس غريبا، ففعليا السوق هي المسيطرة على الاقتصاد، والأقلية الرأسمالية هي المستحوذة على جل الثروة، وهذا يمنحها قوة كبرى للسيطرة على الدولة، وهذا ليس غريبا، فمن يملك هو من يحكم، ولذا تحولت الديمقراطية الغربية فعليا إلى مسرحية شكلية، فيما الحكم الحقيقي هو “أوليغارشية رأسمالية” “وديكتاتورية رأسمال”، ولكن هذه الأوليغارشية أو هذه الديكتاتورية هي من النوع المتخفي، الذي لا يظهر ولا يعمل بشكل مباشر، بل يلعب لعبته من موقعه المتخفي، ويقنع الناس بأنهم فعليا أسياد دولتهم، وأن وجود الرأسمالية هو أمر مسلم به لضمان نجاح ديمقراطيتهم ودولتهم.
ولكن هذه اللعبة في الغرب المعاصر بات واضحا أنها لم تعد مؤخرا على ما يرام، و”الديمقراطية الرأسمالية” تواجه اليوم تحديا خطيرا من قبل “الشعبوية” المعبرة عن استياء وغضب الشعوب الغربية، وهذه الشعبوية باتت من الخطر إلى حد أنها أوصلت ترامب إلى رئاسة أمريكا، وأخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أما في سوريا، فقد حاول حزب البعث بعد استحواذه على السلطة أن ينتهج نهجا يحقق من خلاله الضمان الاجتماعي عبر توجهاته ذات الطابع الاشتراكي، ومن ذلك التركيز على القطاع العام، ومجانية التعليم والطب وسياسة استيعاب الخريجين العلميين والدعم الحكومي وسواها، وهذه بالطبع أمور إيجابية، ولكنها أفسدت تحت نير الاستبداد، الذي أوصل البلاد في المحصلة إلى الكارثة الراهنة.
واليوم الوضعان الاجتماعي والاقتصادي في سوريا متهالكان، والفساد مستشر ومستفحل، والقطاعان العام والخاص غارقان في الفساد حتى الحضيض.
وهذا ما يشكل تحديا شديد الجسامة أمام عملية بناء الدولة السورية الحديثة، حتى وإن تم الخلاص من الديكتاتورية السلطوية.
2.5- الليبرالية:
الليبرالية هي صفة جوهرية من صفات الدولة الحديثة، وفي النظرية، الليبرالية هي فلسفة الحرية التي ترى أن الحرية هي أحد أهم شروط إنسانية الإنسان، الذي لا يمكنه أن يكون إنسانا محقق الإنسانية إن لم يكن حرا، والحرية في الفكر الليبرالي تشتق من إنسانية الإنسان وتجد علتها وتبريرها فيها، أي أن الحرية واجبة لأن الإنسان كإنسان لا يمكنه أن يكون إنسانا إلا إذا كان حرا.
أما عمليا، فالليبرالية هي النظام الذي يمكّن الإنسان من تفعيل وتطبيق حريته، والعيش بحرية متوافقة مع المعايير الإنسانية والعقلانية، وهذا يعني أن يكون الإنسان قادرا على اختيار ما يريده في كل نطاق من أنطقة حياته، مهما كان هذا الخيار مختلفا عن خيارات غيره، بشرط سلمية ومأمونية هذا الخيار، وعدم تسببه بأي ضرر من أي نوع ولأي جهة، بما في ذلك الذات نفسها.
في الغرب الحديث، يمكن القول أن الليبرالية هي أحد الميادين الذي أنجز فيها هذا الغرب تقدما كبيرا مميزا، فاليوم في هذا الغرب الإنسان يستطيع أن يكون حرا في خياراته الدينية والمعتقدية والسياسية والسلوكية وسواها في حدود عدم الضرر التي تم التنويه إليها آنفا، وهذه الخيارات إن تمت وفقا للمعايير المعمول به فليس لها أية عواقب، وصاحبها لا يحاسب ولا يعاقب عليها، ولكنه هو وحده من يتحمل مسؤوليته، ومن حيث المبدأ يفترض فيه كإنسان عاقل أن يكون قادرا على اتخاذ القرارات المسؤولة وتحمل مسؤولية قراره.
مع ذلك، ورغم تميّز الإنجاز غربيا على الصعيد الليبرالي، فليس كل شيء على ما يرام ليبراليا في الغرب المعاصر، فالرأسمالية بثقلها الطاغي تفرض بحكم الأمر الواقع نمط الحياة الذي تهيمن عليه ثقافة اللاثقافة والاستهلاك المفرط والفردانية المتضخمة، ومع تدني مستوى الثقافة لا تعود خيارات الإنسان، كما هو الحال في الانتخاب والتصويت، خيارات رشيدة، ومع تفشي الاستهلاك يفقد الإنسان في أحيان عديدة حتى قيمته الإنسانية نفسها عند ممارسته لحريته ويتحول إلى “شيء”، وهذا ما هو غالب الحدوث في قطاع العلاقات الجنسية على سبيل المثال.
فما هو الحال سوريا على الصعيد الليبرالي؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن المجتمع السوري المتدين المحافظ لا يتفق مع الليبرالية!
وهذا صحيح جزئيا فقط حتى إذا اعتبرنا أن الشكل الغربي للليبرالية هو شكلها الوحيد، وهو منطقيا وعمليا ليس كذلك!
لكن إذا ما عدنا إلى التاريخ السوري الحديث، فسنجد أن سورية في الخمسينيات حكمها الليبراليون، وكان فيها قدر جيد من الليبرالية السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية وسواها.
إلا أن تلك الليبرالية بالطبع لم تكن نسخة مقلدة من الليبرالية الغربية، بل كانت “ليبرالية محافظة” محلية الطابع ولا تتناقض مع تقاليد المجتمع السوري المحافظ.
واليوم، ورغم كل ما تعرض له المجتمع السوري ومايزال يتعرض له ويعانيه من مصائب، فهو بشكل عام صار أكثر انفتاحا وأقدر من قبل على تقبل الليبرالية والمزيد من الليبرالية، التي لا يشترط فيها استنساخ التجربة الغربية.
2.6 -الأممية:
أممية الدولة الحديثة هي شرط رئيس من حداثتها، وهي تعني ألا تكون الدولة متخذة لأية هوية من النوع العنصري الفِـرَقي كالقومية والطائفية وما شابه، ووضع الأممية في علاقتها مع الدولة يشبه وضع العلمانية، ففي الوقت الذي تعني فيه العلمانية فصل الدولة عن المعتقدات، فالأممية تعني فصل الدولة عن “الانتماءات”، والغاية من هذا تشبه أيضا الغاية من العلمانية، وهي ضمان حيادية ومساواتية ووظيفية وكفاءة الدولة، وهذا ما لا يمكن أن تضمنه الدولة القومية، أو المتخذة لأي شكل آخر من أشكال الهوية الفرقية العصبوية، فدولة ملتزمة بمثل هذه الهوية، لا يمكنها أن تساوي بين مواطنيها، وستميز بينهم على أساس الانتماء الفرقي العصبوي، هذا إذا لم تهمش المختلفين أو تضطهدهم.
وهكذا فالدولة الحديثة لا يمكنها بحد ذاتها أن تكون ألمانية أو فرنسية أو إيطالية أو هندية أو صينية أو عربية، وهلم جرى، بالمعنى العصبوي لهذه الصفات، وهي مستقلة ومحايدة تماما على هذه المستوى، وبالنسبة لها هي فقط دولة مواطنين، وهي دولة جميع مواطنيها، بصرف النظر عن وجود أو عدم وجود انتماءات عصبوية لديهم، وأيا كانت هذه الانتماءات والهويات.
وفي الغرب الحديث، من الناحية الرسمية والمؤسساتية والقانونية، الدولة هي فعليا دولة لاعصبوية، أو أممية، وهي لا تتخذ قومية ما أو طائفة ما أو سواهما من العُصب، وبالنسبة لها، في علاقتها مع مواطنيها، هناك شعب واحد موحد من المواطنين وحسب، وليس أشخاص ينتمون إلى هذه الجماعة أو تلك؛ ولكن مع ذلك فهذه الدولة الحديثة الأممية تضمن لكل مواطنيها بالتساوي الحقوق المرتبطة بهوياتهم الجماعاتية المختلفة، وبالطبع في حدود السلمية والمأمونية واحترام القانون، وهي لا تسمح لأحد بأن يؤذي أو يضطهد سواه على أساس أو بسبب الانتماء الجماعاتي.
وشعبيا، الشعوب الغربية بدورها قطعت شوطا كبيرا في هذا المضمار واعتادت على قبول الاختلاف فيه، فأمريكا مثلا هي بالأساس مجتمع مكون من أناس من أصول مختلفة كثيرة، وفيها اليوم العديد من الجاليات التي ما تزال محافظة على طابعها الجماعوي الهويوي، أما أوروبا فهي الأخرى قد تقدمت كثيرا على هذا الصعيد، وهي مثلا تستقبل الأجانب المختلفين المهاجرين، ثم تدمجهم في مواطنيتها، وهي اليوم قد دخلت في شكل من الوحدة في إطار “الاتحاد الأوروبي” المتجاوز للقوميات.
لكن مع ذلك، فمازال ثمة بقايا مؤثرة من مواريث التعصب، وهذا كما سلف القول يظهر في التعصب اللوني في أمريكا وفي كراهية الأجانب في أوروبا، ولكن حتى هذا في أحيان عديدة قد يكون مرتبطا بعوامل معيشية واقتصادية أكثر من العوامل الهويوية.
ذاك نظريا، وغربيا، فكيف هو الحال في سوريا؟
في سوريا، السوريون معتادون على التعدد القومي والديني، فلدينا في سوريا مسلمون ومسيحيون تتعدد مذاهب كل منهم، ولدينا غير متدينين أيضا، هذا دينيا، أما قوميا فلدينا عرب وكرد وسريان وآشوريون وأرمن وشركس وتركمان وسواهم، وبشكل عام كل هؤلاء يعتبرون بعضهم البعض سوريين متساوين في سوريتهم.
لكن مع ذلك ما يزال هناك توجه قوي عند الأكثريتين العربية والمسلمة على ربط هوية الدولة بالعروبة أو الإسلام، وهذا ما يكون له انعكاس سيء عند الآخرين، وعدا عن ذلك، فالانتماءات التقليدية إلى الملة والطائفة والقوم والعرق، ما تزال قوية إلى درجة أنها تستطيع أن تنافس الهوية الوطنية في أحيان عديدة، وحتى أن تتفوق عليها أحيانا!
وذاك يعني أنه ما يزال علينا أن نعمل الكثير على صعيد تأميم مفهوم الوطنية السورية وتحريره من الموروثات العصبوية القديمة.
2.7- اللاحزبية:
تعني اللاحزبية الفصل بين مؤسسة الدولة الحديثة والأحزاب والتنظيمات السياسية، وهذا شرط أساسي من الشروط الواجب توفرها في الدولة الحديثة، وتأتي أهمية هذا الشرط بدوره من ضرورته لضمان حيادية ووظيفية الدولة، وعدم انحيازها إلى حزب أو إيديولوجية محددين، وعدم تأثر عملها بالاعتبارات والعوامل الحزبية أو الإيديولوجية، وهذا ما يحدث عندما تكون الدولة متحزبة أو متأدلجة، ومثل هذه الدولة يمكن ألا يقتصر أمرها على التمييز الحزبي بين المواطنين، وتغليب ما هو حزبي على ما هو وطني، وما هو إيديولوجي على ما هو علمي، وحسب، بل يمكن أن تتحول إلى دولة قمعية، وهذا ما يحدث غالبا، فتقمع وتضطهد كل من يخالفها حزبيتها، ولا يسلم منها حتى غير المتحزبين، فمثل هذه الدولة لا تكتفي برفض الاختلاف، بل وترفض معه حتى الحياد وتصر على وجوب الولاء، وبالأدق التبعية.
في الغرب الحديث هذه المسألة قد تم حلها جذريا، والفصل بين الدولة والتنظيمات السياسية أصبح أمرا بديهيا، وعلى أرض الواقع ليس هناك في الغرب الحديث اليوم “حزب يحكم”، وحتى عندما يفوز حزب ما بانتخابات رئاسية أو نيابية أو بلدية، فالدولة تبقى هي الحاكم، بما هي دولة مؤسسات وقوانين، وليست دولة أشخاص عيانيين أو اعتباريين.
والذي يحدث عند مثل ذلك الفوز الانتخابي، هو أن ممثلي الحزب أو الطرف الفائز، يتم تكليفهم من قبل شعبهم بإدارة عملية الحكم لتنفيذ البرامج التي طرحت عند الترشح للانتخابات ونالت عند التصويت أكثرية الأصوات، وعندها تعتبر أكثرية الأصوات هي المعبرة عن إرادة الشعب التي يتم بموجبها التكليف بإدارة المواقع الرسمية في الدولة، أما الأحزاب التي أوصلت ممثليها إلى مواقع المسؤولية والقرار هذه، فدورها ينتهي هنا، ولا يحق لها قطعا القيام بأي عمل حكومي أو التدخل في عمل الدولة، وهي بعد الانتخاب والتصويت تعود إلى موقعها العام كغيرها من الأحزاب والتنظيمات السياسية، الذي تكون فيه كسواها خاضعة لسلطة الدولة وقوانينها.
في سوريا، كانت لدينا تجربة من هذا النوع في الخمسينيات، ولكنها ألغيت من أجل الوحدة مع مصر، ثم أسقطت بعد محاولة استعادتها بعد الانقلاب على دولة الوحدة، بانقلاب حزب البعث، الذي حول سوريا من الديمقراطية إلى الحكم الحزبي، وما لبث هذا الحكم نفسه أن تحول إلى ديكاتورية بوليسية، وأصبح فيها الحكم الحزبي مجرد واجهة شكلية.
واليوم، ورغم أن الديكتاتورية ما تزال قائمة، فهناك في الجبهة المواجهة إجماع لدى القوى الوطنية التحررية على الرفض التام للحكم الحزبي، وتأكيد مقابل على الخيار الديمقراطي، وفي الوقت الذي كانت فيه “ذهنية الحزب الحاكم” ما تزال موجودة وشديدة لدى أكثرية القوى على الساحة السورية آنذاك، فهذه الذهنية اليوم لم يعد لها من وجود إلا عند بعض القوى الإسلاموية المتطرفة، هذا بالطبع إضافة إلى أنصار وأتباع الديكتاتورية التي ما تزال قائمة.
2.8- المساواة:
تعتبر المساواة بين الناس مبدأ أساسيا في الفكر الحديث بجوانبه الأخلاقية والفلسفة والاجتماعية والسياسية، وتعتبر أيضا ركنا من الأركان التي تقوم عليها منظومة حقوق الإنسان، حيث تنص المادة الأولى مثلا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، ولذا تعتبر المساواة صفة أساسية من صفات الدولة الحديثة، التي يجب عليها أن تكون في بنيتها الخاصة كمؤسسة متوافقة مع مبدأ المساواة، وأن تكون ضامنة لها لجميع مواطنيها في عملها وأدائها.
تعني المساواة أن كل إنسان بما هو إنسان متساو مع جميع الناس الآخرين بناء على إنسانية الجميع وحسب، بصرف النظر عن الجنس والعرق والدين والثقافة واللون والانتماء السياسي والمهنة وسواها من الصفات الأخرى التي قد يختلف فيها الناس، وهذا يعني أن كل إنسان له الحق في المعاملة المتساوية مع غيره من الناس وفي عدم التمييز بينه وبينهم في أي ميدان من ميادين الحياة الإنسانية أو في أي حق من الحقوق الإنسانية وحقوق المواطنة.
هذا كله قد تم إقراره في الغرب الحديث، كما تم وضع الأسس المفترض فيها أن تجعله واقعا فعليا، لكن مع ذلك، ورغم أن الدولة في الغرب المعاصر هي بحد ذاتها كمؤسسة لا تدخل فيها على مستوى التأسيس ونظام العمل أية عناصر تمييزية، وهي كدولة تتموضع على مسافة واحدة من كل أشكال الاختلاف البشري، فتحقيق المساواة بين الناس في الواقع الاجتماعي ما يزال فيه نواقص وعيوب متعددة، فالفجوة بين الجنسين ما تزال كبيرة، وهناك تفاوت طبقي حاد، وهناك أقليات ومجموعات بشرية تتعرض من قبل غيرها للتعصب والتمييز، وهي لا تعيش في نفس المستوى المعاشي، ولا تحظى عمليا بنفس الفرص الحياتية، كما هو على سبيل المثال حال الأمريكيين الأصليين وذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة، وجاليات المهاجرين في غرب أوروبا، وهلم جرى.
وأسباب هذا التمييز منها ما يعود إلى المواريث القديمة السيئة، ومنها ما يعود إلى الفساد الموجود في الطبقة السياسية، ومنها ما يرتبط بطبيعة الرأسمالية المهيمنة على الدولة، والفارضة عليها السياسات التي تخدم المصلحة الرأسمالية وليس المصلحة المجتمعية.
سوريّا، فكرة المساواة تختلف بين مجال وآخر، فهي مثلا مرفوضة على المستوى الجنسي بين الرجال والنساء، وهي أيضا غير مقبولة على مستوى الزواج، وهي منقوصة في بعض الحقوق الدينية والقومية والسياسية، حيث ما تزال فكرة اعتبار الدولة دولة عربية أو إسلامية واسعة الانتشار على مستوى الأكثريتين العربية والإسلامية، ومن مفاعيل ذلك الإصرار على ربط التشريع وديانة الرئيس بالإسلام، واعتبار كل المواطنين السوريين في الدولة عربا سوريين، وبذلك لا يستطيع المسيحي مثلا أن يصبح رئيسا للدولة، حتى وإن امتلك أفضل المؤهلات، أما الكردي فهو غير معترف به ككردي، ولا يحق له مثلا امتلاك وسائل إعلامية أو تعليمية كردية اللغة، وهلم جرى، وهذا في الحالة الأولى انتقاص من حقوق المسيحي السياسية، وفي الحالة الثانية انتقاص من حقوق الكردي اللغوية، وفي كلتا الحالتين إخلال بالمساواة بين المواطنين.
في سوريا، “دولة المساواة” تعني أن تكون “الدولة السورية سوريّة وحسب، ومتمحورة حصريا حول الهوية السورية”، وهذا يعني وجوب عدم ربط هذه الدولة بأية صفة قومية عربية أو صفة دينية إسلامية، ويجب ألا يتضمن دستورها أية فقرات تنص على ربط الدولة بالدين والقومية، وهذا يقتضي المساواة التامة بين جميع المواطنين من جميع الأديان والقوميات، وليس هذا وحسب، بل والمساواة في المواطنة بين جميع السكان، واعتبار كل سكان سوريا مواطنين سوريين وإعطاؤهم جميعا الجنسية السورية؛ وعدا عن ذلك يجب أيضا إلغاء كل جوانب التمييز بين الرجل والمرأة، وإقرار المساواة بينهما؛ كما ويجب إقرار الزواج المدني وتطبيقه؛ ويجب أيضا عدم إغفال العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة في الفرص الحياتية وسبل العيش الكريم لجميع المواطنين.
وقياسا على الوضع الراهن بجوانبه السياسية والمعيشية والثقافية وسواها، يمكن القول أن المهمة على هذا الصعيد ما تزال جد جسيمة، وسبيلها شديد الصعوبة.
2.9- احترام الكفاءة:
احترام الكفاءة يعني ببساطة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، واعتماد مبدأ الكفاءة في تقييم الناس، الذي يعني تقييم الناس وفقا لمؤهلاتهم وحسب، وهذا ضروري جدا للعدل بين الناس من ناحية، ولتحقيق الصالح العام من ناحية ثانية، ومن المفروض على الدولة الحديثة أن تكون هي نفسها قائمة على مبدأ الكفاءة وضامنة له في عملها، وهذان الأمران منطقيا وعمليا لا ينفصلان عن بعضهما البعض.
باحترام مبدأ الكفاءة تعدل الدولة بين مواطنيها وتعطي كل صاحب حق منهم حقه على هذا الصعيد، هذا من جهة، وتضمن هي نفسها أداءها الوظيفي الأفضل من جهة أخرى، وتحقق بمثل هذا الأداء مصلحة مجتمعها من جهة ثالثة، ما يعني أنها بذلك تضمن حسن قيامها بدورها، الموجودة هي أصلا لتقوم به.
أما الدولة التي لا تحترم مبدأ الكفاءة، فهي لن تكون إلا دولة متخلفة فاسدة فاشلة.
غربيا، تقدم الغرب الحديث كثيرا على هذا الصعيد، ومسألة الكفاءة تحظى فيه اليوم بتركيز جد كبير، وقد غدا الحديث عن “حكم الخبراء” المسمى “تكنوقراطية” مثلا نشيطا اليوم إلى درجة أن حكم الخبراء بات يطرح من قبل البعض كبديل للديمقراطية نفسها، وهذا ما يقابـَل برفض شديد من قبل أنصار الديمقراطية، وأصحاب بعض المذاهب السياسية الحديثة الأخرى دون إغفال أهمية “التكنوقراط” كعامل وظيفي في إطار الديمقراطية.
مع ذلك فهذا لا يعني أن مسألة الكفاءة محسومة بشكل كامل في الغرب الحديث، وأنها ليست بلا نواقص، ومن نواقصها الكبيرة والخطيرة أنها موجودة في ديمقراطية مهيمن عليها رأسماليا، وتقودها غالبا طبقة سياسية انتهازية تابعة وخاضعة لعالم رأس المال، ولذا فغالبا ما يصل إلى مواقع المسؤولية والقرار سياسيون نفعيون ليسوا هم الأفضل بالمعايير المهنية والأخلاقية والمجتمعية، بل هم الأنسب لمصلحة الرأسمالية من حيث الغاية، والأنسب لحالة الديمقراطية المفسَدة من قبلها من حيث المعيار.
سوريّا، لا يخفى على أحد أن الكفاءة غائبة عن عمل النظام الحاكم الفاسد منذ عقود، وبالتالي ليس لدى السوريين تجربة في هذا الميدان، وثقافة الكفاءة غائبة اليوم في المجتمع السوري الذي بدوره تغلغل فيه الفساد بسبب استبداد وفساد النظام الحاكم، وإصلاح هذا الوضع بكل تأكيد هو مهمة شاقة إلى حد كبير، ولكنها ضرورة أساسية كبيرة لدولة المستقبل السوري الحديثة المنشودة.
3- خلاصة:
بعد بيان أهم الشروط المعيارية للدولة الحديثة، ومدى واقعيتها في كل من الغرب الحديث، وسوريا، يمكن القول أن هذه المعايير قد جاءت كثمرة من ثمار تطور الفكر والتجربة العملية عبر قرون عديدة من التطور الشامل في الغرب الحديث، وانتقل منه إلى مناطق أخرى في العالم، فاغتنى أكثر بتجارب الأمم المتقدمة منها.
وهذه المعايير في الغرب الحديث قطعت، وإن كان ذلك متفاوت الدرجات، شوطا كبيرا في طريقها إلى التحقق الفعلي، وتم بالدرجة الأولى إرساء قواعدها الواقعية بشكل لم يبق أي جدال فيه، ولكن مع ذلك، وكما تم التوضيح، فما يزال أمامها الكثير لتفعله وتنجزه وتحل مشاكلها وتتجاوز نواقصها فيه.
سوريّا، الأمر مختلف كثيرا، فأهم ما في التجربة الغربية هو أنها كلها قائمة على نهضة حداثية متكاملة تم التوصل إليها عبر قرون من النهوض والتقدم، والدولة الحديثة في الغرب الحديث هي واحدة من أكبر ثمار النهضة الحداثية التي شهدها ومايزال يشهدها الغرب، ومثل هذه الحداثة ما تزال غير متوفرة على الساحة السورية.
بالطبع.. هذا لا يعني أن الحداثة غائبة كليا عن الساحة السورية، فهذا كلام غير منطقي بتاتا، والحداثة لا تتم بقفزة كلية فورية واحدة، وهي تحدث بشكل تدريجي، وقد تحقق منها حتى اليوم في المجتمع السوري الكثير، ولكن هذا الكثير ما يزال في جوانب عدة قليلا وبعيدا عن الحد الكافي المطلوب.
مع ذلك فهذا لا يعني إرجاء مشروع الدولة الحديثة إلى الحين الذي يصبح فيها المجتمع السوري ككل حديثا بما يكفي، ففي المجتمع السوري، رغم كل المشاكل الخطيرة الراهنة، هناك كثير من المعطيات التي تساعد على الشروع ببناء الدولة الحديثة، وهذه الدولة بدورها تـُبنى أيضا بشكل متدرج، وتتطور إلى ما هو أفضل عبر عملية تفاعلية جدلية مع مجتمعها، فتستفيد من تطور المجتمع وبنفس الوقت تساعده في تطوره بشكل فاعل.
وبذلك يمكن القول أن في عملية تطوير وتحديث المجتمع، تكون الدولة نفسها جزءا تكامليا تفاعليا لازما في هذه العملية، وبحيث يمكن وصف هذه الدولة بأنها “دولة متحدثة”، أي سائرة على طريق التحديث والتطور، وتلعب دورا تحديثيا وتطويريا تفاعليا ولازما في سيرورة مجتمعها على هذا الطريق.
وعليه، تعني الواقعية الراهنة في بناء الدولة السورية الحديثة التركيز على ما هو متوفر اليوم من معطيات مفيدة وبناءة في عملية بناء هذه الدولة في حدود ما هو ممكن، وبنفس الوقت عدم تجاهل ما يجب توفره، بل العمل على مستوى كل من الدولة والمجتمع لتوفيره، وذلك يعني عمليا على سبيل المثال عدم إضاعة الوقت والجهد في اللحظة الحاضرة على المطالبة بتطبيق العلمانية والخصام بشأنها، وإرجاء هذه المسألة، وبالمقابل التركيز على مسألة الحرية وضمانها على مستوى مشروع الدولة، وعلى كيفية نشر الثقافة الحديثة بشكل أوسع وأعمق على مستوى المجتمع.
وبالطبع هذا كله يقتضي الخلاص من الديكتاتورية القائمة، لكي تصبح الدولة السورية الحديثة مشروعا واقعيا وليس حلما، لكن هذه الواقعية نفسها تقتضي أن يكون هذا المشروع نفسه واضحا بنظر أصحابه وجاهزا بما يكفي للشروع بتنفيذه عندما تحين لحظة التنفيذ.
محتوى المادة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المركز