تداعيات اغتيال سليماني على دور إيران في سورية
هيمن خبر اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، على وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، وتناقلت وسائل الإعلام ردود الأفعال الدولية وأخبار الحراك الدبلوماسي المتصاعد لاحتواء الأزمة الخطيرة بين كل من الولايات المتحدة وإيران، فقاسم سليماني من أهم رجالات إيران في مجال صناعة النفوذ العسكري الخارجي، ولذلك لم تتوقف إيران عن التهديد والوعيد للحظة واحدة. وفي الاتجاه المقابل، تأتي الردود الأمريكية على لسان الرئيس ترامب متوعدة برد قاس ومدمر في حال تجرأت إيران ونفذت تهديداتها بالاعتداء أو الانتقام من الولايات المتحدة.
سياق الاغتيال:
عملت إيران وبذكاء في استثمار المغامرات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان والاستفادة من حالات التصدع التي شهدتها المنطقة بعد ثورات الربيع العربي في ترسيخ دور مركزي لإيران في المنطقة سمح لإيران في أن تصبح لاعبا أساسيا في أربعة عواصم عربية، وهي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وهذا الأمر دفع بإيران للوصول إلى مرحلة غرور القوة لجهة نجاحها في تغيير نمطية العلاقات و التوازنات الجيوسياسية في المنطقة دون أن يواجه ذلك برد أو تكلفة كبيرة تدفعها إيران، ويعزى ذلك أساسا للتردد الأمريكي وخاصة في زمن أوباما في تبني استراتيجية احتواء واضحة مع إيران؛ بل اعتمد أوباما الأسلوب الدبلوماسي في تعامله مع إيران والذي نتج عنه توقيع الاتفاق النووي في عام 2015 وبذلك بدأت تترسخ القناعة لدى الإيرانيين بزيادة أفق الفرصة أمامهم لترسيخ نفوذهم وسلطتهم في المنطقة من خلال العبث غير المسؤول في التوازنات السياسية، وبناء أدوات سياسية مثل المليشيات الطائفية الموالية لإيران في المنطقة أو السيطرة على مفاتيح اللعبة السياسية كما في لبنان والعراق. ومنذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة ظهر واضحا أنه تم إعادة تقييم وتبني استراتيجية جديدة في المنطقة قائمة أساساً على تقليم أظافر إيران في المنطقة إن لم نقل قطعها، وقد ظهر ذلك جليا في انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني، ثم فرض عقوبات اقتصادية على إيران تكللت هذه العقوبات بردات فعل شعبية تمثلت في مظاهرات في إيران احتجاجا أساسا على الوضع المعاشي في إيران، ورغم ذلك فإيران استطاعت احتواء هذه الردات وحتى القضاء عليها، وفي سياق متصل سعت أمريكا إلى تقليم أظافر إيران في كل من العراق وسورية من خلال توجيه ضربات مركزة على الميليشيات الموالية لإيران والمنتشرة في سورية وخاصة في المنطقة الشرقية، ثم تبعها استهداف لقادة في الحشد الشعبي الموالي لإيران والذي تبعه ردة فعل إيرانية تمثلت في اقتحام موالين لإيران لسور السفارة الامريكية في بغداد، وهو ما قرأته أمريكا بشكل واضح أنه استهداف لأهم رمز للوجود الأمريكي في العراق ، وقد تبع ذلك نشر الأمريكيين لمعلومات تفيد بأن إيران وبتخطيط من سليماني تهدف لتوجيه ضربات للأمريكيين في المنطقة ،وخاصة العراق بهدف رفع تكلفة بقاء الأمريكيين في المنطقة ودفعهم للخروج من المنطقة؛ خاصة بأن ترامب كان واضحا أن لديه رغبة في الانسحاب من المنطقة بعد انخفاض قيمة المنطقة بشكل عام لدى الأمريكيين، وعليه سيكون خروج أمريكا من المنطقة هو اللحظة الحاسمة لإيران في السيطرة الفعلية الإقليمية على المنطقة، وعليه يمكن فهم الرسالة الأمريكية في اغتيال سليماني بأنه لا يستهدف أساسا إيران كدولة؛ وإنما إيران كلاعب إقليمي، فأمريكا لا تريد الدخول في حروب جديدة مع دول جديدة في المنطقة فهي لا ترغب بغزو إيران أو حتى إسقاط نظامها بالقوة، وهو ما صرحت به الإدارة الامريكية بأكثر من مرة؛ ولكنها لا تقبل بالدور الإيراني في المنطقة وعليه فهي تهدف إلى إعادة إيران لداخل حدودها الإقليمية لذلك كان اغتيال سليماني رسالة واضحة بأنه يستهدف الأداة الرئيسية للنفوذ الإيراني في المنطقة ، حيث يعتبر قاسم سليماني رمز المشروع التوسعي الإيراني، وعليه يمكن الاستنتاج بأن الاستهداف أساسا هو “للدور” الإيراني في المنطقة قبل كل شيء.
ما هو المتوقع من إيران؟
في البداية، لابد من الاعتراف بأن إيران اليوم في موقف لا تحسد عليه، فحالة الغرور التي هيمنت على تصريحات الساسة الإيرانيين وعلى السلوك الإيراني بشكل عام أفضى على ما يبدو إلى مأزق حقيقي. فبعد أن قتل سليماني على مرأى من العالم أجمع على يد القوات الأمريكية التي تبنت العملية على الفور أصبحت إيران أمام ثلاثة احتمالات وهي:
- عدم الرد عن هذه الصفعة الأليمة، وبالتالي تصبح عارية أمام الجميع من غير فقاعة البروباغندا التي أحاطت نفسها بها وخلقت من خلالها هيبة غير قليلة، بالإضافة إلى ما يمكن أن يتبع فقدان الهيبة من تداعيات داخلية وخارجية على حد سواء.
- تقوم إيران برد بشكل عنيف بما ينطوي عليه هذا القرار (قرار الرد) من مخاطر محتملة؛ قد تدفع باتجاه دخول إيران في حرب شاملة مع أمريكا هي فعليا ليست في صالح الطرفين لأن نتائجها تقريبا محسومة حسب ميزان القوى لجهة هزيمة إيران أو استسلامها، إضافة لدخول أمريكا في مستنقع جديد داخل الشرق الأوسط.
- الرد المحدود مع التركيز على البروباغندا الإعلامية لترويج رواية توجيه صفعة مؤلمة للأمريكيين ردا على اغتيال سليماني وهو ما يمكن ان يفسر الهجوم الإيراني الأخير على قاعدة عين الأسد بتاريخ. 8-1-2020.
إن إيران تتسم بالبرغماتية العالية والعقلانية في تحديد استراتيجيتها؛ وعليه لا يمكن أن تتخذ إيران خيارات يكون مقابلها هدم المشروع الإيراني للنظام السياسي القائم حاليا في إيران؛ وعليه يمكن القول: إن الدور الإيراني في المنطقة بعد اغتيال سليماني سيتم تحديده وفق القراءة الإيرانية لحدث الاغتيال والاستراتيجية المعتمدة بأحد السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: انكفاء الدور.
يمكن أن تكون هناك قراءة في إيران بأن هناك جدية من قبل أمريكا بتحجيم إيران عن لعب دور في الإقليم؛ وبالتالي قد يكون الانكفاء باتجاه الداخل الإيراني هو الخيار الأمثل في هذه الحالة.
وطبعا، هذا الأمر سيرتبط بمدى قراءة القادة الإيرانيين لقدرة أمريكا وجديتها في تحقيق ذلك، وقراءتهم لمدى قدرتهم على التنازل عن دورهم الخارجي، وتأثير ذلك على إيران، ولكن هذا الخيار يبدو بعيدا بسبب الأهمية العالية للدور الإقليمي لإيران من وجهة نظر قادة إيران في سبيل تحقيق المشروع القومي الإيراني، وفي نفس الوقت لا يبدو أن أمريكا ملتزمة وتملك الأدوات الكاملة لتحجيم إيران لداخل حدودها.
السيناريو الثاني: الدفاع عن الدور الحالي
دفاع إيران عن موقعها الحالي في المنطقة وإبقاء حالة الصراع بأعلى مستوياتها وهو ما قد يدخلها بدوامة استنزاف دائم مع الولايات المتحدة في المنطقة، وسيرتبط نجاح إيران أساسا في ذلك بمدى جدية أمريكا في احتواء وتحجيم إيران، أضافة لقدرة إيران على بناء تحالف استراتيجي مع الصين وروسيا، ومدى قدرة إيران في استغلال أوراق القوة التي تمتلكها في المنطقة لدفع أمريكا للقبول بدروها بالإرغام أو الاقناع، وهو احتمال لا يحمل مقومات عالية، خاصة أن إدارة ترامب يبدو أنها جادة في احتواء إيران، والتحالف الروسي
الصيني الإيراني لم ينتقل فعليا لمرحلة استراتيجية؛ ولكنه بقي في إطار المصلحي المحدود، ولم يصل للاتفاق على الرؤية الاستراتيجية الشاملة.
السيناريو الثالث: تقلص الدور
ويقوم هذا السيناريو أساسا على مدى إدراك إيران بأن دورها الحالي في المنطقة سيجابه باستراتيجية أمريكية لاحتوائه بشكل فعال؛ لذلك ستنتهج إيران استراتيجية تعتمد خليط من الأدوات منها التصعيد العسكري المحدود عبر الوكلاء، وبناء التفاهمات مع الصين وروسيا، مضاف له فسح المجال للتفاوض مع الأمريكيين ولن يكون بالضرورة التفاوض على اتفاق نووي جديد؛ بل ربما يكون التفاوض على محددات الدور الإيراني في المنطقة، والذي ولن يكون بالضرورة مكافأة للدور الحالي؛ ولكن قد يكون أفضل من الانكفاء.
دور إيران الجديد وتداعياته في سورية:
ستتحدد تداعيات اغتيال سليماني على الدور الإيراني في سورية وفق السيناريوهات الثلاثة السابقة التي تم ذكرها سابقا:
أولا: انكفاء الدور، وفي هذا الحالة ستكون الساحة السورية أكثر الساحات تأثرا لجهة الانكفاء الإيراني من المنطقة مقارنة بالساحة العراقية واللبنانية؛ وهو ما سيدفع حلفاء إيران لإيجاد قوى تملأ الفراغ في سورية؛ بحيث لا تستطيع قوى أخرى التعويض عنه، وقد يكون أكبر مؤشر في حال حدوث ذلك: هو الاندفاع الروسي لتضخيم الفيلق الخامس في المستقبل القريب.
ثانيا: الدفاع عن الدور الحالي؛ وهنا قد تكون الساحة السورية من أكثر الساحات القابلة للمناورة الإيرانية، وبذلك ستعمل وبالتفاهم مع النظام لدمج ميليشياتها في الجيش السوري مع بقاء السيطرة للإيرانيين في شكل يشبه الحشد الشعبي في العراق؛ إضافة لتنظيم حركات مقاومة للقوات الأمريكية في شرق الفرات؛ وخاصة أن القوات الأمريكية في شرق الفرات هم الحالة الأكثر ضعفا فعليا لجهة التواجد الأمريكي في المنطقة، ولكن هذا الأمر قد يدخل إيران في حالة تصادم مع كل اللاعبين في سورية بما فيهم الروس؛ وعليه لن تستطيع إيران الإقدام على ذلك إلا بموافقة روسية، وفي حال تجرأت إيران على ذلك دون الروس فيتوقع أن تتكبد خسائر كبيرة؛ سواء من خلال الضربات الجوية الأمريكية لميليشياتها في سورية، أو من خلال الضربات الإسرائيلية، أو من خلال رفع الروس للتغطية الجوية لبعض القوات الإيرانية في سورية بمعاركها مع قوات المعارضة، وهو أمر سيلجم النظام أيضا عن أي محاولة لشرعنة هذه المليشيات داخل الجيش السوري.
ثالثا: تقليص الدور، وفي هذه الحالة ستدرك إيران أن تقليص الدور هو الحالة الأكثر إيجابية لها مقابل الانكفاء أو الدخول في خضم معركة غير معلومة النتائج، وعليه فإيران في هذه الحالة ستكون مضطرة لتحقيق ذلك من خلال تقليص دورها في سورية لصالح حليفها الروسي؛ وعليه يمكن للإيرانيين عرض دمج بعض القوات المحسوبة عليهم في الفيلق الخامس، كما يمكن للإيرانيين والروس طرح المقايضة التالية: وهي:
خروج اللاعبين الإقليميين من سوريا بشكل متزامن، وهو أمر من حيث المبدأ قد يكون محل توافق أمريكي روسي. وطبعا، أي تقليص للدور الإيراني سواء كان بإرادة إيران أو نتيجة استراتيجية أمريكا في احتواء إيران،
ودون تفاهم مع الروس قد يكون له تداعيات سلبية على موقع روسيا المتحكم في سورية، فروسيا أصبحت اللاعب الأساسي في رسم ملامح التطورات الميدانية في سورية ليس فقط من خلال تأمين الغطاء الجوي الفعال ، بل أيضا من خلال الشراكة مع النظام وإيران كقوات برية تضمن تحقيق حسم النتائج المترتبة عن فارق القوة الذي أحدثته القوة الجوية الروسية من خلال السيطرة البرية، وفي حال انكفاء إيران قد تواجه روسيا معضلة في ملء الفراغ بالقوات العسكرية البديلة؛ خاصة وأن نوعية المقاتل المحسوب على إيران هو من النوع العقائدي، وهي نوعية تختلف عن المتطوع أو المجند في الفيلق الخامس، وعليه يمكن لروسيا وفي سبيل كسب بعض الوقت ريثما تتم معالجة هذا الخلل؛ السعي لتفعيل هدنة ذات مدى متوسط مع تركيا وبما يضمن للروس المحافظة على المكتسبات الميدانية التي حققوها بمعية النظام وإيران، وفي نفس الوقت تقوية تحالفها مع تركيا في ظل استراتيجية التحجيم للدور الإيراني في المنطقة، وبذلك يمكن لروسيا وضع معوقات أمام انفتاح تركي جديد مع أمريكا على خلفية اغتيال سليماني.