متى يكون الردع فعالاً
بعد الهجمات التي قام بها كلا من النظام على جبل الزاوية ومليشيات قسد على مناطق ريف حلب الشمالي كثرت المطالبات الشعبية بضرورة أن تقوم تركيا برد حاسم ضد النظام وميليشيات قسد لإيقاف هذه الهجمات، وذهبت بعض النخب المحلية لضرورة بناء معادلة ردع فاعلة ضدهما، علما أن تركيا استطاعت بناء معادلة ردع فعالة جدا ضد النظام، وحتى روسيا، بعد التدخل في عملية درع الربيع والردع ضد أي عملية اجتياح محتملة لإدلب. أي، الردع ضد الهجمات واسعة النطاق، ولكن النظام مازال يقوم بعمليات قصف ومجازر ضد المدنيين في إدلب دون وجود معادلة ردع واضحة ضد الهجمات محدودة النطاق، وهو ما يستوجب طرح السؤال التالي: متى يكون الردع فعالا في مثل هذه الحالة؟
بداية، لا بد من التوضيح بأن إيجاد معادلة للردع العام ضد الهجمات واسعة النطاق أسهل فعليا من ترسيخ معادلة ردع ضد الهجمات محدودة النطاق؛ بسبب اختلاف طبيعة الأدوات والردود المستخدمة فيها عن الحالة الأولى، ولتوضيح ذلك لا بد من فهم معنى الردع ومعادلته، حيث يمثل عامل الردع جوابا على مسألة جدوى لجوء أو عدم لجوء أحد الأطراف إلى أعمال حربية أو عنفية. وكقاعدة، فإن عامل الردع يؤدي دوره حينما يقدر أحد الأطراف رغم الإغراء أو الحافز اللذين يدعوانه إلى العمل، أن الشروع بالحرب أو العنف ليسا مجديان له، بمعنى أن خسارته ستضاهي مكاسبه، وبعبارة أخرى، أنه سيمنى بهزيمة وسيدفع ثمنا باهظا من مقدراته القومية، وعليه، فالردع هو القدرة على ثني عدو أو خصم عن القيام بأعمال عدائية، وذلك عن طريق توجيه رسالة إليه مؤداها أن مثل هذه الأعمال لن تكون مجدية بالنسبة إليه، ومن ناحية عملية فإن الردع يهدف إلى منع الحرب. فالردع بمفهومه العام هو توافر القدرة التي تتيح إرغام الخصم من القيام بأعمال عدوانية، ويعني إحباط الأهداف التي يتوخاها من ورائه تحت التهديد بإلحاق أضرار جسيمة به تفوق المزايا المتوقعة من وراء الأقدام على مثل هذه التصرفات، والردع في نظر الكثير من الباحثين يعتبر بمثابة المحصلة النهائية للتفاعل في العديد من العوامل والمتغيرات العسكرية والسياسية والدعائية التي تضع الخصم في حالة نفسية يحجم معها عن تقبل المخاطرة، ومن ثم فإن الردع الفعال هو المتعدد العناصر والاشكال.
وهناك ثلاث عناصر رئيسية تشكل في مجموعها ما يمكن أن يعطي للردع فعالية وقابلية للتصديق وبالتالي تدعيمه وهي:
- توافر المقدرة على الثأر: من خلال الدعاية لهذه المقدرة لتأكيد فعاليتها للطرف الآخر، كما يستطيع الكشف عن تفاصيل هذه القوة أو كشف النقاب عن أمور معينة تفيد الطرف الأخر بشكل مباشر أو غير مباشر في بناء تصور عنه. ولأن الردع لا يجوز أن يبقى سرا فهو يحتاج لنقل بعض المعلومات للطرف الآخر شريطة ألا تخدم الخصم.
- التصميم على استعمال هذه القدرة الثأرية في ظروف معينة بعيدا عن أي استعداد للمساومة أو التخاذل أو التراجع؛ ذلك أنه إذا أحس الطرف الثاني باستعداد الطرف الرادع للتراجع أو المساومة فإنه يعمد إلى ممارسة بعض الضغوطات والتصرفات التي لن تكون في مصلحة الرادع، ومن هنا يكون تأثير الردع ضعيفا.
- قوة المقدرة الثأرية بحيث يكون باستطاعتها إلحاق الضرر بالخصم بدرجة تفوق ما قد يتوقعه من مزايا نتيجة لمبادلته بالضربة الأولى حيث إن رد الفعل هذا سيكون ساحقا بدرجة غير محتملة، وهذا ما يسمى بالقدرة على التدمير بالضربة الثانية.
بالإضافة إلى ذلك يجب أن يتحلى العدو بنوع من العقلانية، لأن الخصم وتقديره للوضع قد يكونان غير منطقيين، أو أن تكون اعتباراتهم خاطئة، أو مغلوطة، من قبيل قراءة غير صحيحة لموازين القوى من جانب أحد الأطراف، أو استعداده لدفع أي ثمن باهظ لقاء فوائد يرى أنه سيجنيها في حال تحدى حالة الردع. وفي هذا السياق فإن المنطقية والحكمة ليسا بالضرورة توأمين سياميين. من هنا، فإن قدرة الردع ليست مطلقة، بل نسبية ومتحركة.
وعليه فالردع أساسا وجد لمنع التصعيد، وبتفكير منطقي عقلاني بسبب التكلفة المتوقعة من التصعيد والتي قدد تتجاوز المكاسب المرتجاة من التصعيد، وإذا ما نظرنا إلى تطبيق المعادلة العسكرية في المناطق المحررة نرى أن الجانب التركي يمتلك من القوة ما يسمح له بتوجيه ضربات عسكرية قاصمة للنظام، إذا، لماذا لا توجد معادلة عسكرية رادعة؟
الجواب يكون بالعودة إلى فهم أعمق لعملية الردع، فكما أسلفنا يتجذر الردع عندما تكون المكاسب والأهداف المبتغاة أقل قيمة من الخسائر المتوقعة نتيجة تصعيد أحد أطراف المعادلة الردعية، وفي واقعنا، النظام هدفه الأساسي ليس قصف منطقة هنا أو هناك، أو تدمير عربة عسكرية للثوار أو قتل عدد منهم، ففي مثل هذه الحالة سيكون ترسيخ معادلة ردعية أمرا ممكنا جدا، ولكن النظام يهدف من التصعيد ما يلي:
- أولا: استمرار التصعيد بما يجعل المناطق الخارجة عن سيطرته دائما تعيش تحت هاجس أمني لإيصال رسالة للمواطنين تحت سيطرته مفادها أن القصف والقتل هو مصير من يخرج عن سيطرته ويكفيكم توفر الأمان ولو كان هناك نقص في المواد الأساسية الأخرى، وهي معادلة عندما تكون مرفقة بكم هائل من الرعب والخوف؛ تضمن له خنوع الأفراد.
- ثانيا: العمل على تقويض الاتفاق التركي الروسي الموقع في 5-3-2020 والذي نص على تثبيت خطوط التماس وبذلك أصبحت منطقة إدلب محمية فعليا من الجيش التركي وهو أمر يراه النظام خطرا إستراتيجيا عليه، فالرؤية الإستراتيجية للنظام قائمة على رفض وجود أي منطقة خارجة عن سيطرته في سورية، وهو يدرك بأنه غير قادر على مجابهة تركيا لوحده، لذاك هو يدفع باتجاه تخريب الاتفاق، وبالتالي انهيار التفاهم التركي الروسي على قاعدة أن الروس سيدعمونه لإخراج تركيا من سورية
- ثالثا: رسالة إلى الغرب مفادها كلما زاد الضغط على النظام نتيجة العقوبات والانهيار الاقتصادي فسيلجأ لخيار الهروب إلى الأمام، وإشعال المعارك على الأرض هو خيار حاضر، وبالتالي يجب على الغرب التخفيف من العقوبات عليه كي لا يستمر بالإجرام والقتل.
هذه الأهداف تظهر لنا محدودية القدرة على ترسيخ معادلة ردع ضد النظام بشكل يسير؛ لأن النظام يرى بالتصعيد، وهي الحالة المضادة للردع، الهدف الذي يسعى له. وهنا واحدة من أبرز المشاكل التي تواجه تركيا والفصائل لترسيخ معادلة ردع فعالة، ولكن هل هذا يعني بأنه لا يمكن ردع النظام أبدا؟
حتى تستطيع تركيا والفصائل ردعه عن الاستمرار بالهجمات أو تخفيضها بشكل كبير لا بد من البحث عن النقاط الحساسة التي تسبب زيادة التكاليف للنظام ولا تدفع باتجاه انهيار التفاهم الروسي التركي، والعمل عليها، وحينها يمكن التحدث عن معادلة ردعية، علما أن الردع يمكن أن يتآكل وينهار في خضم الزمن، يمعنى أن المعادلة التي تفرضها اليوم قد تتغير غدا نتيجة دخول عوامل جديدة في حسابات صانع القرار، وهو ما يستوجب أن يكون الردع مرنا متغيرا بتغيير الظروف .
أما بما يتعلق بمليشيات قسد فالحالة مختلفة، فتركيا لا تخشي من التصعيد ضدها بل يمكن القول: إن التصعيد قد يكون حالة مرغوبة. وعليه فقدرة تركيا على أن يكون ردها ضد أي هجوم تقوم به المليشيات أكبر ونطاق استهداف التركي للمليشيات أوسع كما أن حساسية المليشيات للخسائر البشرية والمادية أعلى من حساسية النظام لذلك.