في تخبط النظام الإداري للمناطق المحررة
عقد مركز نما للأبحاث المعاصرة خلال الفترة الماضية جلسة حوارية مع الدكتور نصر الحريري رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، حيث تطرقت الجلسة لعدد من القضايا الداخلية والخارجية، ولكن القضية التي تستوجب التوقف عندها هي طبيعية المنظومة الإدارية المسؤولة ضمن المناطق المحررة، والتي يصفها الدكتور نصر الحريري بالنموذج الخليط أي خليط بين الإدارة في وقت الأزمات والإدارة في الوقت الطبيعي، والذي يعتقد أنه رغم تحقيق بعض النتائج مقارنة بالفترات السابقة، سواء بالملف الخدمي أو الأمني أو التنظيم، إلا أنه “بالمجمل”؛ نتيجة هذا الخليط عانت المنطقة من تخبط إداري واضح. وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند بعض النقاط الدافعة خلف كل من هذه النماذج والتي يكون منتجها هذا الخليط.
منذ بداية الحراك الثوري لم يكن هناك تصور لدى قوى الثورة بأنها ستكون أمام استحقاق إدارة مناطق؛ على اعتبار أن الفترة الزمنية للثورة ستكون فترة محدودة زمانيا. فبالتالي، يجب عدم إضاعة الوقت في العمل على بناء نماذج إدارة محلية لإدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. وحتى ما تم بناءه خلال الفترة الماضية ظل محكوما فكريا- بنسبة كبيرة- بقيود الوقت، وأن الاستجابة للمتطلبات التي يحتاجها المجتمع المحلي هي استجابة آنية وإدارة أزمة.
على الضفة الأخرى، كان هناك تفكير بضرورة العمل على بناء نماذج إدارية بديلة وقادرة على طرح نموذج بديل، ولكن هذا الطرح “دائما” كان يعاني من عدة صعوبات لعل أبرزها: غياب وجود سلطة واضحة المعالم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، حيث تتوازع عدة قوى هذه السلطة مما يخلق نوعا من شرذمة القوى يفشل أي جهد لبناء منظومة حوكمية قادرة وفاعلة، كما أن الإدارة الفعالة تبني على معادلة من طرفين: الطرف الأول هو المسؤوليات، والطرف الثاني هو الصلاحيات، وهي تتعدى القدرة فقط على اتخاذ القرار، وهو ما قد تنازعته عدة قوى مع أي نموذج حوكمي، بل أيضا تشمل الصلاحيات توافر موارد لإدارة المنطقة، وهو ما يحتاج الى مقدرات دولة لرعاية كتلة بشرية تقارب الخمسة ملايين. وعليه، فإن طريقة التفكير العامة تجاه إدارة المنطقة المحررة بقي نوع من الخليط بين إدارة الأزمة وبناء النموذج البديل. وبالمحصلة، هذا النموذج الخليط لم يحقق الفوائد المرجوة من النموذج الأول وفشل في تحقيق أهداف النموذج الثاني.
واليوم وبعد مرور عشر سنوات على انطلاق الثورة لا بد من طرح السؤال التالي وبكل شفافية، هل التفكير بإدارة المناطق المحررة وفق مبدا الإدارة بالأزمة بات يصلح؟ وقد يجادل البعض بأن هناك توجه لحلحلة القضية السورية خلال الفترة القادمة، ولكن، ومن وجهة نظر أخرى؛ ماذا لو بقيت الظروف على ما هي عليه خمس سنوات أخرى أو عشر؟ كل هذا يقودنا إلى التفكير بأن العمل يجب أن يكون استجابة مؤقتة يجب أن يتم تجاوزها، وأن يتم التفكير الجدي في طرح نموذج حوكمي فاعل للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ولعل تخوف البعض بأن هذا قد يكون بداية لترسيخ التقسيم هو تفكير غير دقيق، فسورية المستقبل ستكون بشكل شبه حتمي مبنية على لامركزيات. وبالتالي، النماذج الحوكمية اللامركزية ليست عاملا لتقسيم البلد، بل ربما عامل لتوحيد البلد، ومن نافل القول أن الوصول إلى بناء هذا النموذج الحوكمي تعتريه عشرات الصعوبات العملية، سواء لجهة تعدد قوى الأمر الواقع في المنطقة وضعف الموارد المساعدة، أو لجهة غياب البنية القانونية المطبقة وضعف الوعي الشعبي بأهمية بناء هذا النموذج السلطوي في المنطقة. ولكن، كل ذلك لا يلغي الحاجة إلى اعتماد هذا النموذج كمحدد للتفكير تجاه المنطقة وتجاوز التفكير بإدارة الأزمة، وحسب المنطق الإداري ما لا تحسن إدارته، للأسف، ستخسره.