مقالات

ماذا وراء تجاهل الإدارة الأمريكية الجديدة للملف السوري؟

بعد أن تسلمت الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها بدأت التصريحات تتوالى من واشنطن معبرة عن توجهات هذه الإدارة، ويمكن القول إن الخطوط العريضة لهذه التوجهات بدأت تتكشف تباعا، فهناك شبه قطيعة مع سياسات إدارة ترامب، وتبين ذلك من خلال إلغاء المزيد من القرارات التي اتخذتها الإدارة السابقة، كإعادة الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية بعد أن انسحب ترامب منها، وإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ. ومؤخرا، البدء بإجراءات إلغاء قرار تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية.

مبدئيا، يمكن القول إن الولايات المتحدة عادت كما نعرفها ويعرفها الجميع، وهذا لا يعني أن إدارة بايدن ستكون نسخة طبق الأصل عن إدارات سابقة، أو إدارة أوباما بالتحديد كما يحلو للبعض أن يقول، فالبيئة المؤثرة على اتخاذ القرار ورسم السياسات تغيرت، سواء فيما يخص البيئة الداخلية أو البيئة الخارجية، وهذا طبيعي، فلا شيء في هذا العالم ثابت سوى أن كل شيء متغير باستمرار. ولكن العودة المقصودة هنا يمكن تلمس خطوطها العريضة من خلال الكلمة الأخيرة للرئيس جو بايدن بتاريخ 4 فبراير عندما قال: الولايات المتحدة عادت والدبلوماسية عادت، وسنعيد بناء تحالفاتنا الدولية وسننخرط في السياسات الخارجية. وسندعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في كافة أقطار العالم، والولايات المتحدة سوف تكون في مواجهة الديكتاتورية. وهذا الكلام الذي قاله بايدن، في الحقيقة، يتماشى مع الطابع العام للسياسة الأمريكية في معظم مراحل تاريخها القريب.

في التفاصيل، وفيما له علاقة بالملف السوري، تحدثت الولايات المتحدة عن رغبتها بإنهاء الحرب في كل من اليمن وليبيا، ولم تتطرق للملف السوري من قريب أو من بعيد، باستثناء بعض التصريحات المتعلقة بالأمور الإنسانية، وتأكيد وزير الخارجية الأمريكي على أن الولايات المتحدة مستمرة بتطبيق قانون قيصر، وعندما سئل المتحدث باسم الخارجية الأميركية “نيد برايس” حول نية “بلينكن تعيين المسؤول الأميركي والأممي السابق “جيفري فيلتمان” مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، امتنع عن الإجابة، وتحدث بكلمات تتسم بالمزيد من الدبلوماسية وعدم الوضوح، وأكد أن أي تسوية سياسية يجب أن تعالج أسباب اندلاع الأزمة السورية. وأشار إلى أن الإدارة الأميركية ستستخدم الأدوات المتوفرة لها بما فيها الضغط الاقتصادي للدفع نحو إصلاح جدي والمحاسبة ومتابعة الأمم المتحدة دورها في التفاوض على تسوية سياسية بما يتوافق مع القرار الأممي 2254، كما قال إن سوريا كارثة إنسانية وستستعيد أمريكا دورها الريادي في تقديم المساعدات الإنسانية للنازحين في الداخل واللاجئين في الخارج.

من جهة أخرى، شغلت التصريحات الخاصة بالملف النووي الإيراني الحيز الأكبر من تصريحات أغلب أعضاء الإدارة الأمريكية، ولم تخف الإدارة نيتها بالعودة إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عهد الرئيس “دونالد ترامب”. لكن العودة إلى الاتفاق النووي لا يمكن أن تتم بجرة قلم كما تحلم وتشتهي إيران، وعلى ما يبدو أن الإدارة الجديدة ترغب باستثمار جهود الإدارة السابقة، فإيران في وضع يرثى له نتيجة الضغوط القصوى التي مارستها إدارة ترامب. لذلك، فإعادة صياغة الاتفاق بطريقة أكثر شمولية بما في ذلك تضمينه قضايا أخرى من بينها قضايا إقليمية هو الهدف الأمريكي على ما يبدو. ولعل القضية السورية من أهم القضايا الإقليمية ذات الصلة. من هنا، يمكن القول إن الملف السوري وُضع من قبل الإدارة الأمريكية على هامش الملف الإيراني، أو في سلته، بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار تحاشي الإدارة الأمريكية الجديدة الخوض بالملف السوري كأحد خطوات تهيئة الساحة للعودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي، مثله مثل إعلان الولايات المتحدة وقف دعمها للحرب في اليمن، أو سحب حاملة الطائرات “نيميتز” من الخليج العربي. وكذلك تعيين “روب مالي” كمبعوث للإدارة الأمريكية لإيران، والذي اعتبرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية عاملاً معرقلاً للتوصل إلى حلول سياسية عادلة للملف السوري، وهو المتهم من قبل سياسيين في واشنطن بالتعاطف مع إيران وحلفائها. وهناك احتمال ثالث لهذا الإهمال الأمريكي للملف السوري يتأرجح بين التأني بالخوض في ملف معقد ريثما تنضج الرؤية، وبين عدم الرغبة بالخوض في هذا الملف المعقد لضعف أهميته.

يحاول بعض المحللين البناء على هذه التصريحات رغم شحتها، ويستطيع المتفائل أن يتمسك بأهداب تصريح بايدن الذي ذكر فيه أنه سيواجه الديكتاتوريات ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم ليبني عليها قصورا من الأحلام مدعما كلامه بجذاذات معلومات من هنا وهناك. وعلى النقيض من ذلك، بإمكان المتشائم بأن يدعي أن الولايات المتحدة تبطن للسوريين ما لا تشتهي أنفسهم، والدليل على ذلك تصريحاتهم الخجولة. رغم ذلك، تبقى التنبؤات المبنية على معلومات شحيحة بعيدة عن الصواب في أغلب الأحيان، ويغلب عليها الطابع العاطفي أحيانا، والتحيز المقصود لأهداف نفسية وتعبوية أحيانا أخرى.

وخلاصة القول، سواء كان سبب غياب التصريحات الأمريكية حول القضية السورية يعود لأحد الأسباب التي سبق ذكرها، أم كان لعلة أخرى، فالنتيجة واحدة، وهي: لا حلول للقضية السورية في المدى المنظور. فالمرحلة مازالت مرحلة تحضير لمفاوضات، والكل يعلم ماذا تعني كلمة مفاوضات، فهي في غالب الأحيان مد وجذر ونفس طويل، لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنه لا حل للقضية السورية، كما أنها لا تعني أي شيء آخر، فالمؤكد أكثر من ذلك، هو أن النظام السوري أصبح غير قابل للتعويم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى