مقالات خارجية

مجزرة الغوطة: المذبحة التي تجاهلها الضمير الإنساني

منذ أواخر عام 2012، بدأت تظهر تقارير على الإنترنت وفي وسائل الإعلام تشير إلى استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا من قبل قوات النظام، كما اتهمت تلك القوات الجيش السوري الحر باستخدام قنابل كيميائية مرتجلة في خان العسل بريف حلب، في حين اتهم الجيش الحر نظام بشار الأسد باستخدام غازات سامة في عدد من الهجمات، لكن لم تتوفر أدلة موثوقة حينذاك على هذه الادعاءات. وذهبت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في شباط/فبراير 2013 إلى أنها ما تزال تستنتج أنه لا يوجد دليل موثوق به على استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل أي من الجانبين.

في هذه الأثناء كثفت عدة دول غربية عمليات جمع المعلومات الاستخبارية للحصول على عينات من مصادر ومواقع مختلفة للهجمات الكيميائية المزعومة، وتحليلها للتأكد من وجود عوامل كيميائية، واتفقت كل من فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أن تحليلهم أظهر استخدام عامل الأعصاب السارين خلال هجمات في عدة مواقع بالقرب من دمشق وحلب وحمص وفي أماكن أخرى، كما ألقوا اللوم على النظام السوري باعتباره من يقف وراء هذه الهجمات.

واستجابة للنداءات والإدانات الدولية المتكررة لاستمرار الهجمات بالغازات السامة، شكل الأمين العام للأمم المتحدة في 21 آذار/مارس 2013 بعثة للتحقيق برئاسة البروفيسور السويدي آكي سليستروم، وعضوية مجموعة من مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وخبراء طبيين من منظمة الصحة العالمية. لكن فريق سليستروم لم يتمكن من دخول سوريا حتى الثالث عشر من آب/أغسطس في العام ذاته بسبب العراقيل التي وضعها النظام السوري أمام حصوله على تأشيرات الدخول.

وبينما كان الفريق يقوم بالاستعدادات النهائية في قاعدة عملياته في فندق “فور سيزنز” بدمشق لانطلاق أعمال التحقيق الميدانية قام النظام السوري في تحد واضح وصارخ للمجتمع الدولي وللمعاهدات والأعراف الدولية بشن هجمات واسعة النطاق مستخدماً غاز السارين في منطقتي الغوطة الشرقية والغربية بريف دمشق، وأدت الهجمات حينها إلى استشهاد نحو 1500 شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء. وأكدت التحليلات اللاحقة للعينات الطبية الحيوية والبيئية التي أجرتها مختبرات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية دون شك أنه تم استخدام السارين بكميات كبيرة في الهجوم على الغوطة. وأظهرت أيضاً نتائج التقرير الذي قدمته البعثة في 13 أيلول/سبتمبر 2013 أن صواريخ أرض – أرض تحمل شحنة من غاز السارين سقطت وانفجرت في عدة مناطق بريف دمشق، وأشارت إلى وجود غاز السارين في معظم عينات الدم المأخوذة من الناجين.

أمام هذا العدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا في مجزرة الغوطة تصاعدت الدعوات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، وهددت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين بالتدخل العسكري من خلال شن ضربات جوية ضد مواقع النظام بعد تجاوزه الخط الأحمر الذي سبق أن رسمته إدارة أوباما عام 2012 فيما يتعلق باستخدام هذه الأسلحة. لكن حدث تطور غير متوقع في اللحظة الأخيرة في جنيف تم بموجبه التوصل إلى صفقة بين واشنطن وموسكو تتضمن العدول عن التدخل العسكري مقابل التخلص من برنامج الأسلحة الكيميائية للنظام وتدمير ترساناته، إضافة إلى انضمام حكومة النظام إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية والامتثال لأحكامها قبل دخولها حيز التنفيذ.

وأصدر مجلس الأمن الدولي في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2013، القرار رقم 2118، الذي أكد إدانته لاستخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة، وضرورة محاسبة المسؤولين عنها، وحذر النظام السوري في حالة عدم الامتثال لأحكامه، بما في ذلك نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن أو استخدامها، من فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

بناء على هذه الصفقة الأميركية – الروسية تم وأد حقوق الضحايا الذين سقطوا في هذه المجزرة المروعة أمام مرأى العالم وسمعه ودون معاقبة النظام أو حتى تحديد الأشخاص المسؤولين عنها، ولعل التفسير الوحيد لذلك هو أن المجتمع الدولي اكتفى بتجريد النظام من ترسانته الكيميائية مقابل دماء مئات المدنيين الذين قضوا في هذه المذبحة التي يبدو أنها لم تستطع – رغم هولها – تحريك الضمير الإنساني لإنصاف الضحايا وذويهم والاقتصاص من الجاني بسبب وقوف قوى الشر (روسيا، والصين) إلى جانب الجاني داخل مجلس الأمن الدولي ورفض إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية من خلال استخدام حق النقض “الفيتو”.

إن تجاهل المجتمع الدولي لهذه المذبحة الرهيبة وعجزه عن محاسبة مرتكبيها شجع النظام على استخدام الأسلحة الكيميائية مراراً وتكراراً حتى بعد إعلان الأمم المتحدة عن تدمير ترسانته الكيميائية بالكامل نهاية عام 2014 بهدف القضاء على حواضن الثورة وترهيبها أينما وجدت وتنفيذ مشروعه في التغيير الديموغرافي وإفراغ المدن من أهاليها واستبدالهم بعناصر من الميليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانبه.  

مع ذلك تبقى مجزرة الغوطة من الذكريات الأليمة التي لن ينساها التاريخ ورمز لنضال الشعب السوري وتضحياته الجسام ضد الدكتاتورية والاستبداد، ومناسبة لاستذكار أهالي الغوطة والانحناء لهم والتأكيد على حقهم بالعودة إلى غوطتهم التي هجرهم منها نظام بشار الأسد الوحشي وشركاؤه.

الكاتب:

د. وسام الدين العكلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى