مقالات خارجية

لماذا تتجنب الولايات المتحدة استفزاز إيران؟

اليوم يمكن للجمهوريين في الولايات المتحدة أن يسخروا من “بايدن” بقولهم: بينما خلد ترامب إلى النوم ليلة الضربات الإيرانية الموجهة لأطراف القواعد الأمريكية انتقاما لمقتل سليماني، خلد خامنئي إلى النوم أثناء انتقام الولايات المتحدة لمقتل جنودها، فكما أخبرت إيران الولايات المتحدة بطبيعة الضربة، أخبرت الولايات المتحدة إيران بطبيعة ردها الانتقامي. الفرق الوحيد بين الحدثين أن أمريكا فعلت ذلك جهارا نهارا، بينما فعلته إيران سرا.

سمعنا وقرأنا الكثير من التنبؤات حول طبيعة الرد الأمريكي وكيفيته، ويمكن القول إن تلك التنبؤات – في معظمها – كانت واقعة تحت تأثير التحيز العاطفي من جهة، والصورة النموذجية التي طبعت في الأذهان عن الولايات المتحدة الأمريكية إبان حرب العراق من جهة ثانية. وتنزلق التحليلات نحو متاهات أخرى عند محاولة تفسير الرد الأمريكي المتواضع، حيث يذهب البعض للتأكيد على التحالف السري بين إيران وأمريكا، ويربط البعض الآخر ضعف الرد بضعف الإدارة الأمريكية.

بينما يصعب الرد على أصحاب التحالف السري كون إثبات العداوة بين الولايات المتحدة وإيران يندرج في سياق توضيح الواضحات، وبالتالي هو من أشكل المشكلات. يمكن القول للذين يعتقدون أن ضعف الرد مرتبط بضعف الإدارة: أغلب الظن أن معتقدكم هذا يجانب الصواب، فالأرجح أن الرد الأمريكي سوف يتجنب استفزاز إيران وتجنب الصدام معها؛ سواء كان “بايدن” على رأس الإدارة الأمريكية أم كان غيره، فالضعف هو ضعف أمريكا ذاتها بغض النظر عن الإدارة؛ أقوية كانت أم ضعيفة.

يحلو للجمهوريين وهم في موقع المعارضة أن يقولوا لو أن “ترامب” كان الرئيس لفعل كذا وفعل كذا، ويحلو لأصحاب اعتقاد ضعف الإدارة أن يصدقوا ذلك، علما أن “ترامب” عندما أمر بتصفية قاسم سليماني سارع في اليوم التالي لطمأنة الأمريكيين بأنه لا يسعى لحرب مع إيران، كما أنه أقال مستشار الأمن القومي “جون بولتون” بحجة أنه يريد توريط الولايات المتحدة بحرب مع إيران، والأهم من ذلك أن “الكونجرس” الأمريكي وقتها سارع للاجتماع بهدف الحد من صلاحيات الرئيس باتخاذ قرار الحرب.

في كتابه “رؤية إستراتيجية” قال الاستراتيجي الأمريكي الشهير “زبيغنيو بريجنسكي” إن التحدي الإقليمي الذي تمثله إيران ليس قابلا للحل بتوجيه ضربة عسكرية إسرائيلية أو أمريكية إلى المرافق النووية… لأن من شأن ذلك أن يقحم أمريكا في نزاع أوسع، منفرد من جديد، وذاتي التدمير في آخر المطاف”. وكان “بريجنسكي” يقصد بقوله “نزاع أوسع”. نزاع أوسع من حرب العراق وأفغانستان، فإن كانت حرب العراق احتاجت إلى ما يزيد عن 130 ألف جندي وكلفت الخزينة ما يقارب الترليوني دولار فعلى صانع القرار في الإدارة الأمريكية أن يتوقع لحرب مفتوحة مع إيران ضعف أو ضعفي هذه الأرقام.

قد يقول قائل: ولكن ليس بالضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بغزو إيران على غرار ما فعلت في العراق، إذ يمكنها أن تكتفي بضربات جوية دونما الحاجة لغزو بري. وهذه المقولة تتجاهل أكثر ما يرعب الأمريكيين، إذ تتجاهل رد الفعل الإيراني الذي يمكن أن يوجع الاقتصاد العالمي بشدة، وعلينا أن ننظر إلى ما يفعله الحوثيون اليوم كنموذج مصغر جدا عما يمكن أن تفعله إيران ذات الأذرع الأخطبوطية، وذات الموقع الاستراتيجي المطل على الخليج العربي (حيث منابع النفط ومعابره) بشاطئ يتجاوز ال 2400 كم. بمعنى أن موقعها الاستراتيجي يمكنها من اتخاذ اقتصاد العالم رهينة، وبهذا المعنى؛ فالتصدي لرد الفعل الإيراني سوف يعني الانخراط في حرب قد تعرف بدايتها، ولكن يستحيل أن تعرف نهايتها.

بهذا المعنى يمكن فهم الضعف الأمريكي، فبعد الصعود الصاروخي للصين كلاعب دولي قادر على تهديد المكانة الأمريكية أصبح الأمريكيون يتخوفون من أية معارك جانبية، أو حروب عبثية كما يسمونها، خصوصا بعد أن أثبتت هذه الحروب فشلها وارتفاع تكلفتها، فهي حروب تستنزف الموارد الأمريكية وتجعل الإدارة منشغلة في إدارتها، بينما الآخرون يبنون قوتهم بهدوء وثبات. فالضعف الأمريكي لا يقصد به ضعفا عسكريا أو اقتصاديا أو تكنولوجيا، إذ مازالت الولايات المتحدة تحافظ على تفوق واضح في كل هذه المجالات، إنما هو ضعف باتخاذ قرار الحرب نتيجة للبيئة الدولية التي أفرزت منافسين أقوياء يجب التفرغ للتنافس والصراع معهم.

 يقال إن الصراع يفترض – مسبقا – وجود اتفاق بين المتخاصمين على ما يستحق الصراع، ويتمثل ذلك بالقبول الضمني للافتراضات المسبقة، كنتيجة للعب وللدخول في اللعبة. لعبة التنافس والصراع. وهكذا فإنه كلما حدث خرق لقواعد اللعب تلجأ الأطراف لإعادة اللعبة إلى القواعد المتفق عليها “ضمنيا” دون المجازفة التي قد تؤدي لنزاع غير محسوب العواقب.

ضمن هذا السياق يمكننا التنبؤ كي لا نجانب الصواب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى