مقالات

رحلة في عقل الشيطان

من المهم جدا أن تضع نفسك مكان خصمك لتعرف كيف يفكر. هكذا ينصحنا أحد مفكري الاستراتيجية. ولكن مثل هذه المهمة قد تبدو صعبة بالنسبة للسوريين المتحررين جزئيا من سلطة العصابة. فخصمهم عصابة، بل هي من أخطر وأسوأ العصابات كما كان يقول أحد السوريين الذي اعتاد أن يفاجئ كل من يتكلم أو يتحدث عن المافيات العالمية باستغراب بقوله: “أستغرب من السوريين الذين يتحدثون عن المافيا وهم رعايا أسوأ وأخطر مافيا عرفها التاريخ” فحسب صديقنا السوري لا توجد مافيا في العالم رئيسها هو رئيس الدولة شخصيا، وأن هذا النموذج فريد عبر التاريخ.

قد يكون صديقنا لديه بعض المبالغة بخصوص فرادة النموذج، لكنه بكل تأكيد محق بتصوير النظام السوري بالعصابة، فالحكومات مهمتها السهر على تطبيق القوانين، لا أن تكون قدوة في خرقها.

إذن، من يحكم سوريا منذ عقود هم أعضاء في عصابة أطلقوا على رئيسهم لقب “رئيس الجمهورية”، ومن هنا تأتي الصعوبة بالامتثال لتلك النصيحة الاستراتيجية، فليس من السهل أن يضع المرء نفسه مكان عصابة ليعلم كيف تفكر. ولكن رغم صعوبة المهمة يمكن العثور على بعض الثغرات التي يمكن الولوج منها إلى عقل الشيطان لاقتناص بعض ما يجول بخاطره، فكيف يفكر النظام السوري وكيف يخطط لمواجهة قانون قيصر؟

 في البداية، لا بد من التأكيد أن النظام السوري بمعية حلفائه، كان ومازال يضع الخطط ويحضر لمواجهة قانون قيصر، فالفترة التي امتدت من تاريخ إقرار القانون حتى موعد تنفيذه ليست بالقصيرة، وأن هذا النظام وحلفاؤه أصحاب باع طويل وخبرة لا يستهان بها في مجال الالتفاف على العقوبات والتخفيف من وطأتها. كما يجب التأكيد أيضا، على أن سلوك الأشرار عندما يحشرون في الزاوية يتجه إلى اختطاف الرهائن. وهذه النقطة بالذات ما يجب التوقف عندها.

سهل جدا على النظام السوري أن يتعرض للحصار وأن يجوع الشعب وهو يتغنى بالصمود والتصدي، والمقاومة والممانعة متخذا من الشعب رهينة يقع عليها الحيف، موقعا الجهات التي فرضت الحصار في مأزق أخلاقي، لكن المعضلة في هذه الحالة أن الرهائن في هذه الحالة هم المؤيدون فقط، بينما الذين ثاروا عليه في وضع أفضل، وهذا ما لا يستطيع تقبله، فالمعادلة التي سعى إليها منذ الساعة الأولى لخروج أول منطقة عن سيطرته؛ أن المناطق التي تحت سيطرته أكثر أمنا واستقرارا من المناطق التي خرجت عن السيطرة. ورغم أن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بدأت تتأثر بشكل واضح بالأعراض الجانبية لقانون قيصر، إلا أن هذا لا يكفي من وجهة نظر النظام لاتخاذ سكان تلك المناطق رهائن وضعها أسوأ من الرهائن المؤيدة، فيجب أن يبقى المؤيدون يحمدون الله على نعمه عندما يقارنون أنفسهم بسكان المناطق المحررة!

من خلال تصريحات بشار الجعفري الذي قال أثناء معركة إدلب الأخيرة بأن النظام ينوي إصلاح مطار حلب بعد فتح الطريق الدولي بحيث لا تعود هناك حاجة لإدخال المساعدات عبر الحدود، ومن الفيتو المزدوج ضد مشروع قرار التمديد لقرار مجلس الأمن الذي يتيح للمنظمات الدولية إدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود دون موافقة النظام السوري؛ نستطيع أن نستنتج أن النظام يفكر بمحاصرة المناطق المحررة إذا تمكنت روسيا من إيقاف العمل بقرار مجلس الأمن السالف الذكر. عندها لن تستطيع أية جهة أن تدخل المساعدات إلا عن طريق النظام السوري، وهذا ما سوف يجعله متحكما بهذه المساعدات، وعلى المرء أن يتصور ما تعنيه هذه العبارة.

من جهة أخرى، ورغم أن تركيا أفشلت خطته الأولى عندما هاجم إدلب محاولا إرضاخ العالم من خلال تصديره لملايين النازحين. ورغم أن التموضع العسكري التركي في إدلب جعل من فكرة اجتياح إدلب مرة أخرى فكرة شبه مستحيلة، لكن ذلك لن يمنعه من تكرار الخروقات وقصف القرى والمناطق المأهولة بالسكان منعا للاستقرار. فالهجوم على إدلب قد يلقى ردا عنيفا من القوات التركية المتواجدة هناك، أما الخروقات فلن

تتسبب في حرب، وأنها في أسوا الأحوال قد تتسبب برد على مصادر النيران وهذا أمر مقبول بالنسبة له، وهو في حساباته مكسب له، فمقتل بعض الجنود الذين لا قيمة لهم لا يوازي العبث بأمن واستقرار الخارجين عن طاعته.

بكل تأكيد، ليس هذا كل شيء. فمن خلال عاداته يمكن التوقع أن يحاول تحسين سعر الليرة مع بداية دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في محاولة لإقناع مؤيديه أن القانون لن يؤثر عليه، كما يمكن توقع أن يأتي بمناورات أخرى مبتكرة، فهو صاحب اختصاص باللف والدوران والمراوغة. لكن المؤكد أكثر، أنها محاولاته الأخيرة؛ لأن الأمور ليست بهذه السهولة. فإلى جانب مأزق الرهائن. أي، ضرورة أن يكون الخارجون عن سلطته ضمن عداد الرهائن، هناك مأزق الحلفاء، فرغم أن روسيا حسب تصوراتها تفضل إعادة تأهيل نظام الأسد، إلا أنها وبسبب أزماتها الخاصة بها، من تدهور أسعار النفط إلى مقارعة وباء كورونا، لن تقوى على اتخاذ قرار التحدي لأنه مكلف جدا، وسيعمق جراحاتها. وعليه، لن يكون النظام السوري حرا في اتخاذ قراراته، بل هناك شريك قوي سيفضل أن ينجو بأقل المكاسب تاركا صديقه يواجه مصيره المحتوم.

قد يستمر المجرم في المناورة حتى اللحظات الأخيرة، لكنها في الغالب مناورات يائسة بائسة، فلكل ظالم نهاية، وكل المؤشرات تقول: إن النهاية أصبحت قريبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى