مقالات

البحث العلمي كأحد روافع التغيير…

يعتبر البحث العلمي مسار حتمي في نهضة المجتمعات، ويمكن الاستدلال على ذلك بمقارنة أكثر الدول إنفاقا على البحث العلمي فالولايات المتحدة الأمريكية تنفق حوالي 480 مليار دولار سنويا والصين أيضا تنفق حوالي 370 مليار دولار أمريكي، وإذا ما نظرنا لهذه الأرقام نجد أن ما تنفقه أمريكا يعادل عشرين ضعفا من موازنة سورية كاملة قبل عام 2011 مما يظهر لنا تكلفة مسار البحث العلمي، وثقافة أمريكا العلمية ومنهجها يعتمدان على مبدأ وضع الثقة بالعلماء والباحثين، فهاهو العالم أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م عن أبحاثه في «الفيمتو ثانية»، يجري أبحاثه على الرغم من أن بعض العلماء الأمريكان الذين يعملون معه في المجال نفسه يشككون في النتائج النهائية لبحوثه، ولكن لم يتوقف دعمه بسبب هذا النقد أو التشكيك! فلم يقل أحد هذا عربي أو مسلم! أو ربما أبحاثه ونتائجه ستوجه يوما ضدنا! إضافة إلى ذلك، تم اختياره من قبل الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” ليكون ضمن أعضاء مجلس المستشارين العلميين والتقنيين الـ 20 التابع للبيت الأبيض مباشرة، والمعروف اختصارا باسم مجلس «بي. كاست» pcast. والذي من مهامه المساعدة في رسم مستقبل أمريكا العلمي والتقني من أجل اقتصاد قوي.

ولا يقتصر هذا الأمر على الدول العظمى المستقرة بل يشمل أيضا الدول التي عانت من الصراعات وكوريا الجنوبية تعتبر نموذجا في ذلك، فكوريا الجنوبية حين تأسيسها كانت واحدة من أفقر دول العالم؛ وجاءت الحرب الكورية سنوات 1950-1953، لتُلحق دمارًا واسعًا شمل كل القطاعات بالجنوب وخلّفت الحرب أيضًا خسائر بشرية كبيرة قُدرت بحوالي 1.3 مليون كوري جنوبي، من بينهم حوالي 400.000 ألف قتيل. ومع انتهاء الحرب، تراجع دخل الفرد إلى حوالي 50 دولارًا سنويًا، ورغم ذلك استطاعت تحويل المأساة إلى نموذجا في النجاح التنموي من خلال جملة من العناصر الداخلية البشرية والاقتصادية بالإضافة إلى العناصر الخارجية كدور الشركات الأجنبية والرعاية الأمريكية ويعتبر البحث العلمي أحد أبرز عناصر النموذج التنموي الكوري حيث أصدرت كوريا ترسانة من القوانين لتشجيع البحث العلمي، وأنشأت العديد من المكاتب والهيئات لتنسيق البحوث، وأنفق كل من القطاع الخاص والعام موارد مالية ضخمة لردم الهوة التي كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة، كما تشكل التجربة الرواندية نموذجا أخر على دور البحث العلمي كأحد أدوات تحقيق التنمية الاقتصادية ومعالجة المشاكل الاجتماعية في دول ما بعد الصراع.

 والبحث العلمي ليس استثمارا خاسرا، بل هو في الأصل استثمار يدر الأرباح والدليل في ذلك اليوم هو أن القطاع الخاص يعتبر من أكبر المساهمين في مجال البحث العلمي فشركة “أمازون” على سبيل المثال انفقت في عام 2020 ما مجموعه 17.2 مليار دولار أميركي في مجال البحث العلمي وشركة “فوكس فاجن” الألمانية أنفقت حوالي 15.1 مليار دولار أميركي في نفس الفترة، وعليه بات البحث العلمي مؤشرا قويا لمدى تقدم المجتمعات، وإذا ما أدرنا عقارب البوصلة تجاه منطقتنا نجد أن دول المنطقة تعتبر في الدرك السفلي لترتيب الدول في العالم في هذا المجال، ولهذا الأمر أسبابه المنطقية والمتصلة بغياب رؤية الأنظمة السياسية لأهمية البحث العلمي، وضعف الإمكانيات المادية لدول المنطقة، وغياب البنية العلمية والبحثية المساعدة، وخاصة انخفاض جودة مؤسسات التعليم وبالأخص الجامعات.

وعليه فدول المنطقة بالمجمل يمكن القول عنها إنها ضعيفة في مجال البحث العلمي، ومن باب أولى بناء على ما تقدم يمكن القول إن سورية لا يوجد فيها بحث علمي، والمناطق المحررة بالضرورة لا يمكن وسم ما تصدره مؤسساتها التعلمية والبحثية بأنه بحث علمي لافتقاد المنطقة لمقومات البحث العلمي.

إذن، لماذا نناقش هذا الموضوع من أصله؟

إن افتقاد المنطقة لمقومات البحث العلمي لا يلغي حقيقية أن البحث العملي هو الاداة الأمضى التى تبنتها المجتمعات لتغيير واقعها، فالبحث العلمي يهدف إلى معالجة المشكلات وتفسير الظواهر واستشراف المستقبل وتحسين وتطوير الواقع وهو أبرز ما يمكن لنا الاستفادة منه لتغيير الواقع الحالي، خاصة في الجانب الاجتماعي، فقد أظهر المجتمع السوري جملة من المشاكل الثقافية والاجتماعية والسياسية، والتي تتطلب مجموعة من الأبحاث التي ترنو إلى تفكيك أسباب هذه المشاكل والوقوف على سبل معالجتها بما يعيد بناء الخارطة الذهنية للمواطن  والمجتمع السوري بعيدا عن الخارطة الذهنية السابقة، والتي سببت جملة من النكسات، ويمكن للبحث تحقيق هذه الغاية اذا  ما تم الوقوف على ابرز المشاكل التي يعاني منها البحث في المنطقة وتقديم بعض المقترحات لتطوير واقع البحث العلمي وخاصة في المجال الاجتماعي على اعتبار أن تطوير البحث العلمي في المجال التطبيقي يتطلب ظروفا إضافية يصعب تحقيقها في ظروفنا الحالية.

أولا: أبرز مشاكل البحث العلمي في المجال الاجتماعي:

  1. مؤسساتنا التعليمية وخاصة الجامعات هي مؤسسات تكرارية تلقينية تستهدف نقل المعلومات للمواد الدراسية بعيدا عن أدوات التفكير المنطقية المعززة لفهم الطالب لهذه المعلومات.  
  2. الحالة التنمطية للأبحاث من خلال ما يدعي الشروط الشكلية والموضوعية وهو ما يغلب على البحث الشكل العملي دون المحتوى العلمي، مع ملاحظة أن تنميط البحث هو حالة أقرب إلى التحنيط الذي كان يقوم به الفراعنة بالمومياء.
  3. ضعف مساحة الحرية المساعدة على البحث العلمي.
  4. غياب البيانات التي يمكن للباحث الاعتماد عليها لإنتاج البحث العلمي.  

ثانيا: الحلول المقترحة:

  1. الاعتراف بضحالة البحث العلمي، وهذا الاعتراف يعتبر الخطوة الأولى للعمل على تطوير البحث العلمي في المجال الاجتماعي.
  2. العمل على نقل تجارب مجتمعات أخرى باتجاه منطقتنا واليوم يمكن الاستفادة من تجارب السوريين في دول اللجوء بالإضافة إلى الانفتاح على التجربة التركية.
  3. فسح المجال أمام البحث وهو يتطلب حرية بالبحث.
  4. توفير مقدرات مالية من خلال الشراكة مع بعض الجهات البحثية الدولية المهتمة بتطوير الأبحاث حول المجتمعات التي تعيش حالات صراعية.
  5. توسعة مجال مناهج البحث العلمي في الخطط الدراسية في الجامعات وتعزيز قدرات الطالب الجامعي من خلال:
    1. زيادة معارفه وعدم حصرها من خلال المقررات الجامعية حيث يجب العمل على تعزيز هذه المعارف من خلال توسعة حجم المراجع العلمية لكل مقرر.
    2. تمكينه من المهارات العقلية كالتفكير السببي والنقدي والابداعي.  
    3. تكثيف استخدام الأدوات الكمية والكيفية التي تحتاجها مناهج البحث الاجتماعية.

يمكن القول إن ادخال هذه المقترحات ضمن خطة لتطوير البحث العلمي في المجال الاجتماعي في المنطقة قد يسهم في إيجاد ديناميكية فكرية جديدة تقف على نقاط الضعف الأساسية التي يعاني منها المجتمع، والعمل على تطوير نماذج علمية لمعالجتها مع الأخذ في الحسبان أن البحث العلمي يمتاز بحصانة الصفة العلمية التي تسمح له بتحطيم الأفكار التقليدية المغلوطة دون أن يقع تحت مقصلة الاتهام بأنه موجه ضد الأفكار التقليدية التي اعتادها المجتمع، وحتى لا نكون مفرطين في التفاؤل يجب إدراك أن البحث العلمي القائم على منظومة فكرية خاطئة للأسف يكون لها آثار سلبية أكبر من غياب البحث العلمي ذاته، وهو ما يجب على النخب العلمية أن تكون واعية له بشكل كبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى