ترجمات

من غروزني إلى إدلب: استراتيجية القتل الروسية


من غروزني إلى إدلب: استراتيجية القتل الروسية[1]

[Elie Guckert[2

قصف روسيا للمواطنين السوريين المدنيين يعود أصله إلى الخسارة التي تعرضت لها موسكو في حرب الشيشان الأولى، منذ حوالي خمسة وعشرين سنة.

مشاهد رعب في شوارع مليئة بالدخان، نساء وأطفال تحت أنقاض بناء، ومدن مهجورة وكأنها آثار. هذه يوميات السوريين في الحرب التي تدمر بلادهم منذ عام /2011/، والتي خلّفت أكثر من /500000/ قتيل، من بينهم أكثر من /240000/ مدني، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

منذ تدخلها في شهر أيلول /2015/، قصفت موسكو عمداً السكان والبنى التحتية في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة لحليفها بشار الأسد. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان أيضاً فإن روسيا مسؤولة بمفردها عن قتل أكثر من /6500/ مدني[3]. تستمر روسيا حالياً في هجومها على محافظة إدلب، آخر منطقة تسيطر عليها المعارضة، حيث تدعم عمليات قوات الجيش السوري فيها.

مصير قرطاج

في 11 كانون الأول /1994/، وبعد ثلاث سنوات من انهيار الاتحاد السوفييتي، أطلق رئيس جمهورية روسيا الاتحادية الوليدة (في ذلك الوقت) بوريس يلتسين هجوماً على الشيشان التي كانت قد أعلنت استقلالها قبل أيام. تم اقتراح خيارين على القادة الشيشانيين: إعادة الانضمام إلى روسيا أو (مصير قرطاج[4]). وهكذا، كان بوريس يلتسين يأمل باستعادة قوة روسيا بعد هزيمتها في الحرب الباردة.

“خلال معركة غروزني الأولى حاول الروس السيطرة على المدينة بسرعة ودون تدميرها كثيراً” يشرح ميشيل غويا، عقيد سابق في القوات البحرية، دكتور في التاريخ ومدرس سابق للتاريخ العسكري في المدرسة الحربية. يضيف غويا “كان هذا في النهاية كارثة مطلقة بالنسبة للروس، وهكذا بدا لهم أن الأمر ليس بسيطاً كما كانوا قد تخيلوه”. “في تلك الفترة لم يكن يلتسين يريد الإفراط في استخدام القوة. كان يخشى ردة فعل شعبه تجاه قتلى روس على الأرض، ولم يكن يريد مطلقاً نشر كل قواته”. كما أوجز نيكولا تنزر، رئيس مركز الدراسات حول القضية السياسية في باريس وأستاذ العلوم السياسية.

كان الجنود الروس مدربين بشكل سيء وأقل خبرة من منافسيهم في القتال ضمن المدن، لذا تعرضوا لخسائر كبيرة، ولم يستطيعوا السيطرة على العاصمة الشيشانية غروزني إلا لفترة محدودة في شباط 1995، قبل أن تطردهم منها المعارضة بشكل كامل في آب 1998.

كان الانتقام لتلك الخسارة وحشياً، فإذا كانت حرب الشيشان الأولى مسرحاً لفترات من القصف العنيف، فإن استراتيجية القصف الروسي قد زادت كثيراً خلال حرب الشيشان الثانية. بدأ ذلك في آب /1999/ بعد سلسلة هجمات في موسكو، اتهمت بها السلطات الروسية مقاتلين شيشانيين، في ذلك الوقت وعد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بملاحقة من وصفهم ب(الإرهابيين) في كل مكان.

يوضح ميشيل غورا “هذه المرة قرر الروس ألا يلبسوا قفازات، وهكذا عوضوا عن فقرهم التقني بالسحق بالنيران، بتقليد ما كان سائداً خلال الحرب العالمية الثانية”.[5] هذه الاستراتيجية التي نفذها الروس هي ذاتها التي استخدموها في سوريا منذ عام /2015/، كما يقول نيكولا تنزر “رأينا استخدام أسلحة مثل BURATINO (قاذفة الصواريخ المتعددة)، الصواريخ الحرارية، القنابل العنقودية، وغيرها، التي كانت تسقط عمداً على أماكن مختلفة، كالمدارس، المشافي والأسواق”.

كان القصف الهائل للمدنيين وتدمير البنى التحتية في الشيشان يهدف إلى نفس الهدف اليوم في سوريا، كما يوضح ميشيل غويا “في حرب المدن يكون عند المقاتلين حمايتان: الحائط من جهة والناس حولهم من جهة أخرى، وهكذا يتعلق الأمر بجعل الناس يهربون، لأنه بمجرد خروجهم سيتغير الوضع. ولذا كان هناك في غروزني معبر لخروج الناس، وحتى قسم من المقاتلين. وتكرر اتباع نفس الأسلوب في سوريا، كما حصل في حلب عام /2016/[6]. برأي الأستاذ غويا يتعلق الأمر من وجهة نظر الروس بمعاقبة الشعب الموجود في الشيشان أو حلب باعتباره شريكاً للمتمردين (كما وصفهم الروس). يضيف الأستاذ تنزر “إنها حرب إبادة من الجو تقوم على فكرة إرهاب الناس وتعكير حياتهم، وفي المحصلة قتل أكبر عدد ممكن منهم”.

حرب الروايات

الروس ليسوا أغبياء، كما يقول ميشيل غويا: “إنهم يسيطرون بشكل كامل على الحرب الإعلامية، ويحاولون تفادي أي صور عنيفة. وهكذا، إذا أردتم مشاهدة صور أطفال مشوهين أو صور أخرى عنيفة فعليكم الذهاب إلى المشافي، ولهذا السبب فإنهم يستهدفون المشافي أيضاً في قصفهم”. ومع ذلك فإن جرائم الحرب في سوريا، المرتكبة من قبل النظام السوري أو حليفه الروسي، هي موثقة بشكل كبير، من قبل السوريين أنفسهم، الذين يتبادلون عدة مقاطع فيديو تظهر آثار القصف، ثم يقومون بنشرها على شبكات التواصل الاجتماعي. ولم تكن الحال مشابهة في غروزني، وكلما كانت الصور أقل كلما كان القصف أشد، وهو عامل يأخذه الروس في الحسبان.

إذا كان لدى السوريين وسائل تواصل لم تكن موجودة عند الشيشانيين، فإن الروس قد واجهوهم بنفس الطريقة الإعلامية. يقول نيكولا تنزر “الروايات المستخدمة لتبرير عمليات التدمير الهائل كانت متشابهة كثيراً بين الشيشان وسوريا، كان الروس يزعمون أنهم يدمرون التنظيم الإرهابي المرتبط بالقاعدة، وينكرون ارتكاب جرائم حرب مؤكدين أن أهدافهم هي مواقع الإرهابيين فقط ومتجاهلين وجود معارضة معتدلة”. وهذا ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آب /2019/ رداً على نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي طالب باحترام وقف إطلاق النار في إدلب، حيث أجاب بوتين بأنه “يدعم عمليات الجيش السوري للقضاء على التهديدات الإرهابية”[7]. يضيف السيد تنزر “من المهم التذكير بأن هذه الرواية قد تم استخدامها بعد أحداث 11 أيلول من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش في حديثه عن الحرب ضد الإرهاب”. وهكذا فإن تعميم جدلية (ضد الإرهاب) سمح لبوتين بتبرير عمليات قواته لاحقاً. ويرد السيد تنزر على مزاعم بوتين بقوله “لكن من الناحية الفعلية لم يكن في الشيشان إلا عدد قليل ممن وصفهم بوتين بالإرهابيين في تلك المرحلة، وأكثر من ذلك، من يتتبع الضربات الروسية في سوريا، يلاحظ أنها لم تستهدف المجموعات التي وصفتها روسيا (بالإرهابية) إلا بشكل محدود جداً”.

تهدف هذه الاستراتيجية الروسية إلى إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي، كما يرى نيكولا تنزر “فيما يخص بوتين، يتعلق الأمر بإظهار الغرب (كجبان)، وبأنه يستطيع ارتكاب جرائم هائلة ضد الإنسانية دون أن يحرك المجتمع الدولي إصبعه الصغير، وبأن القانون الدولي ليس له أية قيمة”. رغم أن ردة الفعل الغربية فيما يتعلق بمجازر حلب أو الهجوم الكيماوي في الغوطة كانت أكثر من ردة فعلها على المجازر المقترفة في الشيشان، لكنها في النهاية حملت نفس طابع التقاعس والضعف.

في كلتا الحالتين فرضت موسكو نفسها منتصراً بلا منازع، كما يرى ميشيل غويا، الذي يرى بأن بوتين قد حقق انتصاراً مطلقاً في سوريا[8] “لقد بدّل الروس موازين القوى في سوريا عسكرياً وسياسياً، إنهم موجودون على الأرض السورية، وكل الدول الأخرى الموجودة في المنطقة يجب أن تأخذ هذا الأمر في الحسبان”.

وهكذا وجد الغربيون (زعماء الدول الغربية) نفسهم مجدداً أمام أمر واقع، وكما يذكر ميشيل غويا “دائماً ما يصل الروس بشكل هائل، مفاجئ وبسرعة. هذا أمر تقليدي بالنسبة له، لقد احتلوا تشيكوسلوفاكيا في يوم واحد عام /1968/، وقاموا بعملية سريعة في كابول (أفغانستان) عام /1979/. أيضاً ما قام به الروس في شبه جزيرة القرم عام /2014/ يُعتبر عملية سريعة، وكان ذلك قبل سنة من تدخلهم في سوريا.

النتيجة التي يصل إليها السيد نيكولا تنزر “لو أعطى قادة الدول الغربية اهتماماً أكبر لما حصل في الشيشان، لشعروا مبكراً بالخطر الروسي وقاموا بإجراءات استباقية لمنع انتشاره إلى جورجيا عام /2009/ وأوكرانيا عام /2013/ وسوريا عام /2015/، لكن لم يتكلم أي منهم عما حصل في الشيشان”.[9]


[1] المقالة منشورة في موقع مجلة slate  الفرنسية ومتوافرة عبر الرابط التالي

http://www.slate.fr/story/185267/grozny-idleb-strategie-russe-ecrasement

[2] صحفي فرنسي متخصص في العلاقات الدولية.

[3] يبدو هذا الرقم ضئيلاً وأقل من الواقع بكثير، ولعل سبب ذلك هو اعتماد الباحث على إحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فقط، كما أنه يتحدث فقط عن المدنيين الذين قتلتهم القوات الروسية بمفردها، ودون تعاون مع قوات النظام السوري. 

[4] المقصود بمصير قرطاج: تدمير المدينة بكاملها. وترجع القصة إلى قيام الجيش الروماني بتدمير مدينة قرطاج بشكل كامل سنة /146/ قبل الميلاد، تنفيذاً لقرار صادر عن مجلس الشيوخ الروماني، وكان سبب هذا التدمير هو خوف الامبراطور الروماني (كاتو) من تشكيل مملكة قوية في قرطاج توحد كامل شمال إفريقيا وتهدد وجود الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت. أصبح التهديد بمصير قرطاج مثلاً في التدمير الكامل لمدينة ما، وهو ما هدد به الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين العاصمة الشيشانية غروزني.

[5] تشير الإحصائيات إلى مقتل أكثر من /25/ ألف مدني خلال حربي الشيشان.

[6] تحدث إعلام النظام مع اشتداد الحملة الروسية على المدنيين في القسم المحرر من مدينة حلب عن فتح معابر إنسانية لإخراج المدنيين نحو مناطق سيطرة النظام.

[7] يؤكد هذا التصريح النظرة المتطرفة لحكومة روسيا إلى كل الموجودين في المناطق المحررة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد بأنهم إرهابيون يجب القضاء عليهم، وكان هذا مبرر عملياتها في القتل والتدمير.

[8] المقصود بهذا الانتصار من وجهة نظر الكاتب اختلاف خريطة السيطرة على الأراضي في سوريا بعد التدخل الروسي، وعودة سيطرة النظام على مساحات واسعة من هذه الأراضي بمساعدة الطيران الروسي.

[9] النتيجة التي توصل إليها الباحث أن الدول الغربية كان يجب عليها مواجهة الخطر الروسي منذ حرب الشيشان الأولى بداية التسعينيات، لكن سكوتها عن ذلك أدى إلى تدخل روسيا في دول أخرى وصولاً إلى تدخلها الأخير في سوريا، لأن روسيا شعرت بعدم وجود محاسب لها فاستمرت في أعمالها وقامت بتوسيعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى