مقالات

إدلب إلى أين؟

إذا أردت أن تعرف ما يخفي اثنان، اختلق ما تشاء من بنات أفكارك وستجدهم مضطرين للرد ونفي ما تقول. أعد الكرة مرة ومرتين باختلاقات جديدة، ستجدهما أخيرا مضطرين للبوح بما يخفيانه. أي، كن فضوليا بما يكفي.

تلك النصيحة للفضوليين تنجح في الغالب على مستوى العلاقات الشخصية، ولكن يصعب أن تدفع كلا من الرئيس الروسي والرئيس التركي للإفصاح عما دار بينهما بخصوص محافظة إدلب، ولكن التصريحات الروسية توحي بأن نوعا من الضغوط مازال يمارس على تركيا لتليين موقفها تجاه النظام السوري من خلال بوابة إدلب. فإدلب كانت ومازالت وستبقى نقطة ضعف قوى الثورة والمعارضة والقوى الداعمة لها، وذلك لأن القوى المسيطرة على الأرض في محافظة إدلب هي في معظمها من الجماعات المصنفة على لوائح الإرهاب العالمي.

حتى الآن لا أحد يعلم ما الذي دار بين الرئيسين التركي والروسي بخصوص الملف السوري بشكل عام، وفيما يخص محافظة إدلب بشكل خاص، ولكن ما يمكن ملاحظته بشكل واضح أن اللقاء بين الرئيسين جاء مترافقا مع بعض التطورات في الملف السوري رأى فيها بعض المحللين انزياحات في المواقف الدولية تصب في مصلحة النظام السوري، ورغم أن هذه التغيرات الطفيفة موجودة لكنها ليست بحجم البروباغندا التي مارسها النظام السوري الذي يتقن ممارسة الإرهاب النفسي بقدر إتقانه ممارسة الإرهاب المادي. لذلك، لا يمكن الاستناد إلى ما يطلقه أبواق النظام السوري من تصريحات، كما لا يمكن الاستناد إلى التصريحات التي يطلقها حلفاء النظام السوري التي تندرج ضمن سياق التنسيق السياسي والإعلامي بين هؤلاء.

من جهة أخرى، ذهب الرئيس التركي إلى اللقاء في ظل توتر واضح في العلاقات التركية الأمريكية، وهو ما يعني أن القيادة الروسية لا بد أنها استغلت هذا الموقف لدعم مساعيها الرامية إلى فك ارتباط تركيا بالحلف الأطلسي وانحيازها نحو التحالف المضاد الذي تحاول روسيا صناعته. ويعتقد أن الاستغلال الروسي لتوتر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة جاء عن طريق مزيج من الضغوط والإغراءات، وإذا كان الوضع في إدلب أحد أهم نقاط الضعف التركية التي يمكن للجانب الروسي الولوج منها، إلا أن هذا لا يعني أن تركيا في حالة من الضعف تدفعها إلى الرضوخ للضغوط الروسية بهذه السهولة، خاصة وأن الساسة الأتراك لطالما صرحوا في أوقات سابقة أن الدفاع عن إدلب يعتبر بالنسبة لتركيا مسألة أمن قومي، ولم تتوقف الأمور عند مستوى التصريحات، بل رصدت الحكومة التركية ما يكفي من الموارد لجعل هذه التصريحات تعبر عن موقف حاسم لا يمكن التراجع عنه.

يعلم الجانب الروسي أن تركيا لا يمكنها أن تتنازل عن إدلب قبل إنجاز التسوية السياسية، لكن الروس يعلمون أيضا أن ممارسة الضغوط من خلال ملف إدلب قد تجلب لهم بعض المكاسب في ملفات أخرى، ولعل أهمها إقناع الحكومة التركية بضرورة التنسيق مع النظام السوري، والجلوس معه وجها لوجه في مفاوضات سوف تعني في النهاية شرعنة لهذا النظام، ونجاحا روسيا آخر في مساعي إعادة تعويم النظام بعد أن نجحت في إحداث بعض الخروقات في الجبهة العربية.

بالأمس نشرت الواشنطن بوست مقالا بعنوان: “بايدن يؤيد ضمنيًا التطبيع مع الأسد”، ولم تخرج التحركات السياسية التي يقودها ملك الأردن عن هذا السياق، كذلك الموافقة الأمريكية على تفعيل خط الغاز العربي الذي يعبر الأراضي السورية لا تخرج عن هذا السياق. لذلك، يمكن القول إن تركيا ستكون مضطرة للتفاوض مع روسيا حول ملف إدلب، وفي نفس الوقت لا أحد يستطيع أن يتكهن بما ستؤول إليه المفاوضات، فقد تنتهي بالتفاهم حول ملف آخر. أو تنتهي بتعهدات تركية باتخاذ بعض الإجراءات حيال القوى العسكرية المتواجدة في إدلب، وقد تنتهي بأي شكل آخر باستثناء احتمال وحيد: هو الانسحاب من إدلب وتسليمها للنظام السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى