مقالات

سيادة القانون مدخل لحوار وطني مثمر

ليس الإنسان حيوانا سياسيا عن رضى وطواعية، فهو لا يتحد مع زملائه مدفوعا برغبته بقدر ما يتحد معهم بحكم العادة والتقليد والظروف القاهرة، وهو لا يحب المجتمع بقدر ما يخشى العزلة، ولذلك نراه يتحد مع غيره من الناس لأن اعتزاله يعرضه للخطر، ولأن ثمة أشياء كثيرة يمكن أن يسهل أداؤها بالتعاون بينما يصعب أو يستحيل أداؤها بالانفراد. وهكذا، فإن ما يدفع الإنسان لتشكيل المجتمع هما عاملي الخوف والمصلحة مع احتفاظه بمزاج لا اجتماعي يدفعه إلى الرغبة في توجيه كل شيء على هواه كما يقول “كانط”. من هنا يمكن القول باستحالة قيام المجتمع بغير نظام، والنظام لا يكون بغير قوانين.

إذن، فالقانون رافق الجماعات الإنسانية منذ نشأتها حتى اليوم، سواء كان على شكل تقاليد أم كان قانونا مكتوبا، وعبر التاريخ تطور القانون مع تطور الإنسان وتحضره، وحسب بعض المؤرخين: أول المراحل في تطور القانون أخذ الإنسان لنفسه بالثأر، والخطوة الثانية نحو القانون والمدنية من حيث التصرف إزاء الجريمة هي الأخذ بالتعويض بدل الثأر، ولما كانت هذه الغرامات أو التعويضات التي تدفع اجتنابا للثأر تتطلب تقديرا للجريمة والتعويض بحيث يتلاءمان؛ اتخذت خطوة ثالثة نحو القانون وهي قيام المحاكم، ورابع الخطوات التي خطاها القانون في تطوره؛ هي أن تعهد الرئيس أو تعهدت الدولة أن يحول دون الاعتداء وأن ينزل العقاب بالمعتدي، وبهذا لم يعد الرئيس قاضيا وكفى، بل أصبح إلى جانب ذلك مشرعا يسن القوانين، وأضيفت إلى مجموعة القوانين العامة الشائعة بين الناس، والتي استمدوها من تقاليدهم مجموعة أخرى من القوانين الوضعية التي مصدرها المراسيم الحكومية.

يعد القانون أحد أهم نواميس الضبط الاجتماعي نظرا لشموله وتغطيته كافة جوانب حياة الجماعة، ولكن ما يعاب على القانون أنه ظل طوال تاريخه يعاني من سوء التطبيق، ففداحة الجريمة كانت دائما تقل بعلو منزلة المجرم وتكبر إذا كان من اقترف الخطيئة إنسان من سواد الشعب. بذلك كان القانون أحد أدوات الاستبداد في أغلب الأحيان وعلى مر العصور، ومع تقدم وعي الإنسان بالحرية بدأ الصدام يحدث بين الشعوب وبين الحكام، وظهرت النظريات العقدية التي استخدمها كثير من رجال الفكر والدين كوسيلة لدعم آرائهم واتجاهاتهم السياسية في محاربة السلطان المطلق للحكام، وتطورت فكرة السيادة لتنتقل من الحكام إلى الشعوب التي حصلت على حريتها بعد كفاح مرير.

من خلال وعيه بمصالحه كان زحف الإنسان نحو الحرية يتم داخل إطار الدولة، فالحرية كمفهوم: هي القدرة على ممارسة الخيارات الذاتية، فكريةٍ وعملية، في سياق ما هو مشروع ومتاح، دونما تعدٍ على حرية الآخرين، أو إتلاف لملكية عامة، أو إضرار بالصالح العام، وكذلك، دونما إعاقة قسرية من أية جهة خارجية، ودونما ممانعة متعسفة من أي نوع. وفق هذا المفهوم تعتبر الحرية حقا إنسانيا أصيلا، إلا أنها توازن بالمسؤولية الاجتماعية، وبذلك يغدو الاثنان بمثابة كفتي قسطاس مستقيم يلزم تواجدهما في تقابل في جميع الأحوال. إذن، هناك ضوابط وقوانين، وهناك ملكية عامة، وهناك مشروعية، وهناك مسؤولية اجتماعية. كل هذا يحيلنا إلى ضرورة وجود السلطة، وجود الدولة. لذلك، لا يجانب الصواب من يقول: “لا حرية خارج إطار الدولة”، ولكن ليست أية دولة، بل الدولة بمفهومها الحديث التي تمتاز بوجود سلطة مؤسسة. أي، سلطة قائمة على قواعد قانونية تحدد مدى هذه السلطة، وتنظم العلاقات بين المواطنين والدولة، وبين المواطنين أنفسهم.

من أجل أن يكون القانون قادرا على الضبط والتنظيم والمحاسبة لا بد من كونه سيدا مستقلا، يعلو ولا يعلى عليه، أو كما يقول مونتسكيو: ” القانون يجب أن يكون مثل الموت الذي لا يستثني أحد. بهذه الحالة. أي، تكريس مبدأ سيادة القانون، يمكننا أن نتصور مجتمعا سياسيا لا مكان فيه للاستبداد، وينتفي فيه الظلم بمعناه الفج، وينحسر فيه الفساد والمحسوبية إلى أدنى المستويات، وإذا علمنا أن سيادة القانون تساعد على التخفيف من وطأة الإكراه، إذ يصبح القانون وسيطا بين الأوامر الصادرة عن الحكومة ومن يمثلونها، وبين الطاعة من قبل المواطنين؛ بمعنى أن الأمر يرتكز على القانون، والطاعة تكون طاعة للقانون. إذا علمنا ذلك، يمكننا أن نتصور منسوبا مرتفعا جدا لكرامة الإنسان.

قد يتبادر للذهن أنه فيما سبق طرح لحل المعضلة السورية، لكن الأمر، في الواقع، على عكس ذلك، فتلك المقدمة ينبثق عنها عشرات الأسئلة كل سؤال منها تشكل الإجابة عنه معضلة بحد ذاتها، ولعل السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: هل يقبل السوريون بمبدأ سيادة القانون؟ يقول الإعلامي السوري فيصل قاسم في أحد مقالاته: “ذات يوم سألت مسؤولا كبيرا: لقد جئتم إلى السلطة قبل عقود وأنتم تتوعدون الطبقات الاجتماعية والثقافية القديمة بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنكم تحالفتم معها شيئا فشيئا، لا بل عززتم مواقعها ووظائفها، فرد قائلا: هذا صحيح، ولكن ليس لأننا نريد تكريس وضع قديم، بل لأننا وجدنا أن هناك قطيعا كبيرا من الناس يسيرون خلفها بشكل أعمى، ولا يريد أن يمسها بأي تغيير، فقلنا لأنفسنا: بما أن القطيع لا يريد التغيير، لا بل من الصعب تغييره هو نفسه، فلنسر وراء تلك الطبقات القديمة التي تقود القطيع وتتحكم به طالما أنها تحفظ الاستقرار ولا تهدد النظام السياسي”. في الواقع لن يقبل أصحاب النفوذ الذين اعتادوا أن يتخذوا من مدى مقدرتهم على دوس القانون مقياسا لهيبتهم ونفوذهم أن يصبح القانون في يوم وليلة سيدا يأتمرون بأمره، وهؤلاء رغم أنهم أقلية ظاهريا، ولكن من يتبعونهم ويأتمرون بأمرهم من البسطاء الذين لا يعرفون أين تكمن مصالحهم الحقيقية؛ هم أكثرية، بل أكثرية مطلقة. من هنا، تقود الإجابة عن السؤال السابق إلى الاصطدام بمعضلة اجتماعية بنيوية.

يقصد بالقانون مجموعة القواعد التي تطبق على الأشخاص في علاقاتهم الاجتماعية ويفرض عليهم احترامها ومراعاتها في سلوكهم بغية تحقيق النظام في المجتمع. ومن أجل أن يكون القانون مقبولا ويحظى باحترام الجماعة يجب أن يكون واقعيا وملائما للظروف الاقتصادية والاجتماعية ومتوافقا مع قيم الجماعة ومعتقداتها. وهنا يتبادر للذهن سؤال آخر: أي نوع من القوانين يتوافق مع رؤى السوريين؟ وعن هذا السؤال يمكن أن تنبثق عشرات الأسئلة؛ فهل هو قانون جائر يقيد الحريات، أم هو قانون عصري يصون الحريات؟ ما هي حدود الحريات؟ ما هي طبيعة الأغلبية التي يجب أن توافق على هذا القانون؟ أهي أغلبية عددية، أم هي أغلبية تمثل كافة أطياف الشعب وشرائحه؟ … إلخ. قد لا يخفى على أحد أن الإجابة عن هذا السؤال وما يتفرع عنه ستجعل الباحث يكتشف أنه أمام معضلة ثقافية، فالثقافات الفرعية للشعب السوري تتباين تباينا واضحا، وتتراوح بين أقصى اليمين وأقصى الشمال وما بينهما.

السؤال الثالث الذي يطرح نفسه: مع افتراض أن القضاء حصل على استقلاليته، كيف يمكن أن نضمن أن يكون هذا القضاء نزيها؟ فليس من المعقول أن تُطلب النزاهة ممن مرتبه الشهري لا يغطي مصروفه الشخصي لمنتصف الشهر، كما أنه ليس من المعقول أن تصبح مرتبات السلك القضائي تفوق مرتبات باقي فئات الشعب بأضعاف مضاعفة. أي، ليس من المعقول أن يسخر القسم الأكبر من موارد الدولة للسلطة القضائية في مقابل حرمان قطاعات الدولة الأخرى، على اعتبار أن موارد الدولة السورية لا تكفي لأن تقدم الدعم بسخاء لكل قطاعات الدولة ومؤسساتها، وهنا تبرز المعضلة الاقتصادية التي تطرح الكثير من الأسئلة، من مثل، كيف نطور اقتصادنا؟ كيف نحسّن مستوى دخل الفرد؟ أي أسلوب تنمية نتبع؟ … إلخ.

تحيل المسألة الاقتصادية إلى معضلة لا تقل تعقيدا عن سابقاتها، وهي المعضلة الأيديولوجية، فالنظام السوري كأي نظام مستبد كان قد سعى خلال سنوات حكمه إلى تصنيع مجتمع مغلق؛ مجتمع ينظر بعين الريبة والشك للآخر، بل والعداء المطلق للدول المصدرة للاستثمارات، وهذا يتنافى مع أفكار التنمية الاقتصادية، إذ تشير أغلب الدراسات إلى أن تجارب التنمية الناجحة اعتمدت بشكل كبير على الاستثمارات الوافدة من الخارج. وعليه، فالأيديولوجية التي أصبحت جزءا ثقافة الشعب السوري تقف في مواجهة ضرورة الانفتاح على العالم، ولما كانت الأيديولوجيا نوعا من الفلسفة أو أسلوبا لتفسير السلوك، فلن يكون السؤال عن البديل محرجا لأي سوري، فسوريا بلد يكاد ينفجر من كثرة الثروات الباطنية المحتقنة تحت أرضه، وبالتالي لسنا بحاجة للآخر، وإذا ما علمنا أن أغلب القصص التي تتحدث عن ثروات سوريا لا تعدو عن كونها قصص تفتقر إلى المصداقية تكون المعضلة الأيديولوجية أصبحت أكثر وضوحا.

إن حوار وطني على مستوى النخب ينطلق من فكرة سيادة القانون ويعطي الموضوع ما يستحق من اهتمام؛ كفيل بأن يقدم الإجابة عن السؤال الأهم، ألا وهو كيف نكرس مبدأ سيادة القانون؟ إذا لا يكفي أن ينص الدستور على هذا المبدأ، كما أنه لا يكفي أن تنادي به أقلية لن تجد لصوتها صدى في فضاء يكتظ بالعقبات. من هنا يمكن القول: في العادة، تكلل الحوارات الوطنية في النهاية بترجيح إحدى وجهات النظر التي استطاع أتباعها تقديم البراهين والأدلة الكافية لجعلها قناعة راسخه لدى شريحة واسعة من الشعب. وبذلك، يمكن تصور نشوء كتلة حرجة تقودها نخبة وطنية واعية تدفع باتجاه تكريس مبدأ سيادة القانون، كتلة مستعدة للتضحية بالوقت والجهد وبعض المزايا التي تحصلت عليها في مجتمع قانون الغاب، والتضحية ببعض قيم ذلك المجتمع، بل والاستعداد للسير خلف هذا الهدف إلى أبعد الحدود.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى