مقالات

دروس في التحليل السياسي المبسط

قد يعتبر نوع من التبسيط؛ الادعاء بأن العلاقات الدولية والسلوك الدولي يشبه – إلى حد بعيد – العلاقات الاجتماعية وسلوك الجماعات المكونة للمجتمع الداخلي؛ إذ يمكن للمرء على سبيل المثال أن يجد تفسير الحفاوة الزائدة التي يُستقبل بها زعيم دولة قوية بربط الفكرة باستقبال الأشخاص ذوي النفوذ في المناسبات الاجتماعية. وتفسير لجوء الدول الضعيفة لطلب الحماية من الدول القوية بإسقاط ذلك على حالات شديدة الشبه في العلاقات الاجتماعية. لكن رغم ذلك؛ يبقى هذا التبسيط غير كاف بالنسبة لأولئك الذين يفسرون الصراعات الاجتماعية بتأثير عملية تحميل اللغة المتبعة لدى الأنظمة الشمولية، والتي هي عملية تخدير للعقل، ومن خلالها تضغط أكثر مشكلات الإنسان شمولا وتعقيدا إلى عبارات قصيرة ومختصرة جدا تبدو حازمة يسهل حفظها والتعبير عنها، وهدفها هو إيقاف التفكير المستقل؛ كأن تفسّر بعض النزاعات العائلية الحادة بأنها وقعت نتيجة لخلاف حول مبلغ زهيد من المال، أو نتيجة لفظة نابية من أحد أفراد العائلة الفلانية، أو أي حدث شديد الصغر من هذا القبيل. أي، يتم تفسير النزاع من خلال ربطه بالشرارة التي أطلقت العنان لهذا النزاع، بينما الأمر في حقيقته أعمق من ذلك بكثير، فلو تفحصنا الأمر لوجدنا الأسباب، غالبا، ترتبط بالصراع على النفوذ والسلطة، وبالمنافسة الحادة عليهما والتي وصلت إلى مرحلة الصراع العنيف، وأحيانا يرتبط الأمر بالدفاع عن الهيبة، أو ربما لفرض هيبة، وهكذا…

رغم ذلك، هناك كثيرون ممن يستطيعون الوقوف على الأسباب الحقيقية للنزاعات والصراعات الاجتماعية، وهؤلاء لو استطاعوا أن ينقلوا مهارتهم في تحليل الظواهر الاجتماعية إلى تحليل العلاقات الدولية سيجدون تفسيرا لكثير مما يدور حولهم من أحداث سياسية، وخاصة فيما يتعلق بالقضية السورية، ومن يفعل ذلك؛ سيجد سببا وعلة منطقية لكل شيء، وإن لم يجد السبب والعلة؛ يكفي أنه سيعتقد بوجود سبب وعلة واقعية. وبالتالي، الاستعداد لتقبل التفسير المنطقي. لكن ما يحدث، غالبا، أن التحليل السياسي يخضع لمحددات العقل الجمعي الذي يختلف اختلافا جذريا عن العقل الفردي، إذ يخضع العقل الجمعي لمنظومة من المحددات والأطر والخرائط الإدراكية عند تفسيره للظواهر السياسية، وعندما يتعلق الأمر بالشأن السياسي، خاصة عند الأنظمة الشمولية، يمكن القول إن هذه الأطر والمحددات والخرائط الإدراكية تكون من صنع السلطة، إذ يصار إلى هندسة أفكار المجتمع وآليات التفكير المتبعة من خلال ما تمتلكه هذه السلطات من أدوات للتأثير يصعب الإفلات من براثنها. فعلى سبيل المثال: السوريون، وعلى مستوى النخب، أمضوا عقودا من حياتهم وهم يتلقون التفسير لكل الأحداث السياسية الخارجية منها والداخلية من خلال نظرية المؤامرة لدرجة أنهم أصبحوا يتقنون استخدام هذه النظرية في تفسير الظواهر السياسية بمهارة قل نظيرها.

من خلال هذا المدخل في تبسيط التحليل السياسي يمكن القول: نحن السوريون في غالبيتنا العظمى نتقن ممارسة السياسة دون أن نعلم. وبالتالي، نتقن التحليل السياسي إن أردنا فعل ذلك؛ المطلوب فقط أن نعلم ما هي السياسة، وأنها ليست أكثر من سلوك نمارسه يوميا دونما توقف. ويتضح ذلك عندما نعلم أن كافة خلايا المجتمع؛ ابتداء من الأسرة، مرورا بأي مؤسسة صغيرة، وانتهاء بأكبر التنظيمات الاجتماعية ليست سوى حكومات مصغرة تدار فيها الأمور بتراتبية واضحة؛ لها رئيس يتخذ القرار بطرق تشبه إلى حد بعيد الطرق المستخدمة لدى الحكومات بشتى أشكالها. كما يخضع صنع القرار في هذه المؤسسات الصغيرة إلى ضغوط وتأثير البيئة الداخلية والبيئة الخارجية، كما يرتبط بشخصية القائد، سواء كان مديرا، أم رب أسرة، أم شيخ عشيرة. ومن هنا، يمكن للإنسان العادي إن تمكن من إتقان مهارة بسيطة (تشبيه سياسة الدول بسياسة خلايا المجتمع) أن يصبح محللا سياسيا ناجحا إلى حد ما.

يقع السلوك السياسي في غالبيته بين حدين متطرفين من السلوك الإنساني، والقصد: الانبطاح والتملق الزائد كحد أول، والعنجهية الزائدة كحد ثان. كلا هذين السلوكين هما خارج نطاق السياسة، وما بينهما كله سياسة، فالمرء يتقبل من أبيه احترام مديره، وتقربه ممن لديه مصلحة معه، ويشعر بالرضى عن سلوك أو سياسة أبيه مادام يقوم بواجبه تجاه أسرته، بل ويتفهم سلوك أبيه المهادن تجاه جهة وجهت الإهانة له (للولد) باعتبار تلك الجهة تمتلك من القوة ما يفوق طاقتهم. الشيء الذي يرفضه الأبناء بشدة ويشعرهم بالخجل؛ هو أن يكون أبيهم بلا كرامة. أي، منبطحا متملقا زيادة عن الحد. كذلك الأمر فيما يخص العنجهية والتعنت الزائدين، إذ لطالما انتقد الأبناء الآباء على هكذا سلوك إن وجد.

من خلال الملاحظة، يمكن القول إن من انخرطوا بالشأن السياسي بعد الثورة، في غالبيتهم العظمى، يمارسون السياسة من خلال أحد هذين البابين: الانبطاح الكامل، والعنجهية البلهاء. أي، من خلال السلوك المستثنى من السياسة. ويمكن القول أيضا: إن كلا السلوكين مستوحى مما تعلمناه سابقا، فالانبطاح والتملق كان الأسلوب المعتمد للصعود والترقي، والعنجهية الجوفاء تمثل الخطاب الخشبي للنظام السوري الذي ثقّب آذننا لعشرات السنين. وعليه، يمكن القول: إننا نفهم السياسة ونفسر الأحداث والمواقف السياسية من خلال ما قيل لنا أنها السياسة، بينما السياسة والممارسة السياسية الفعلية هي شيء آخر، وهي في متناول أيدينا، ونحن نستطيع من خلال تفسير سلوكنا الاجتماعي بطريقة حيادية أن نفسر سلوك الفاعلين السياسيين.

أخيرا، من أجل النجاح في التحليل السياسي من خلال هذا المدخل، لا بد أن يكون اختيار المثل أو السلوك المجتمعي المماثل من بين سلوك الجماعات الأكثر عقلانية، فالإنسان العادي، في الواقع، كثيرا ما يستخدم مثل تلك المقاربات، لكنه يختار المثل الذي يناسب مزاجه، والذي يحتوي في طياته على الكثير من الحماقة: كرد الاعتبار، والثأر، والتهور، أو تتم المقاربة من خلال بعض القيم الفردية كالنخوة والحميّة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى