مقالات

الأيدولوجية والسياسة

تعددت التعريفات المعبرة عن الأيدولوجية ولكننا أقرب لتعريفها باعتبارها “علم الأفكار” وتعتبر الأيدولوجية أحد أهم مصادر السلوك السياسي للأفراد والجماعات وحتى الدول، وكما يقول كارل ماركس، فالأيدولوجية هي “الوعي الساذج” للمجتمع. ومن ناحية أخرى، يشير علم الاجتماع إلى أن التعريف الدارج في الولايات المتحدة لها يُطلق على كل نظام معايير فكرية تستخدمها مجموعات أصحاب القرار لتبرير وتقييم أفعالهم وأفعال الآخرين على النحو الذي يتطابق مع أفكارهم. ووفقاً لماركس وإنجلز، فالأيدولوجية تستند إلى أدلة وحجج تجسد العنف للهيمنة على الحكم، وقد استخدمت كأداة لتدجين العقول فهي تقوم بعملية تنميط وإعادة برمجة لعقول الأفراد بما ينتج سلوكيات غير واعية وتكرارية لدى الأفراد وكأننا امام حالة تشابه الروبوتات في أفعالها والببغاوات في أقوالها.

مع بدايات الحراك السوري عام 2011، كان واضحا غلبة الشعارات الجامعة والبعيدة عن الأدلجة بشكل عام. ولكن، مع الامتداد الزماني والمكاني للثورة باتت تطفو على السطح تمظهرات أيدولوجية في عدة مجالات، ولكنها كانت أكثر وضوحا على الجبهة العسكرية حيث باتت العديد من الفصائل العسكرية تحمل بعدا أيدولوجيا يتسم، بالعموم، بسمة إسلامية، ولعل مجموعة الأفكار المكونة لهذه الأيدولوجية كانت نابعة من حاجة للبحث عن أداة تستطيع هذه الفصائل الإسلامية من خلالها تجنيد الشباب في المعركة ضد النظام وحتى في معاركها البينية، وقد اختلفت مستويات هذه الأيدلوجية ومدى تأثيرها على الأفراد من فصيل إلى آخر. وخاصة، لجهة تحديد طبيعة التعريف لمعني “النحن” المكون لهذه الفصائل في علاقتها الذاتية مع أفرداها باعتبارهم الفئة المنصورة، أو الجهة التي هي على الصواب، أو بعلاقتها مع الأخرين ومع البيئة المحيطة التي يتعاملون معها، ولعل قضية رفض تبني علم الثورة في الأعوام ما بين 2013 و2015 من قبل بعض الفصائل الإسلامية، أو الموقف من قضايا الحقوق والحريات والديموقراطية مثال على آثار الأيدلوجية على سلوكيات الفصائل الإسلامية، علما أننا لا يمكن شمل جميع الفصائل الإسلامية في بوتقة واحدة، حيث امتازت بعضها بالانفتاح وقبول هذه الأمور بشكل مختلف عن فصائل كانت أكثر تشددا إزاء هذه القضايا، ولعل هذا التشدد جعل هذه الفصائل أسيرة لأيديولوجيتها، كما أن الظروف العسكرية التي عاشت بها الفصائل في هذه الفترة والمتمثلة في علو كعب سيطرتها مقابل النظام سمح لها بالتفكير بالمستقبل على قاعدة أن المعركة حسمت، وبأنها قادرة على طرح نموذجها دون الأخذ بالحسبان لأي قيود أخرى متعلقة بالتوازنات الداخلية في سورية أو الإقليم أو الوضع الدولي، وبذلك كانت أيدولوجية هذه الفصائل هي العيون التي ترى من خلالها واقعها السياسي، وفكرة العمل السياسي بالمجمل، والتي كانت في تلك الفترة من الغير مرغوب بها؛ على قاعدة أن الوقت حاليا فقط ” للتمكين” وتثبيت أركان سلطة الفصائل، ولكن توازن القوى في الميدان بدأ يميل -خاصة بعد التدخل الروسي- لصالح النظام، كما أن استحقاقات إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام باتت تفرض نفسها على هذه الفصائل مما دفع بعض هذه الفصائل لإجراء مراجعات لمواقفها من قضايا تعتبر مشتركات في العمل الثوري، كتبني علم الثورة والانفتاح على القطاعات المدنية في مناطق سيطرتها وفتح حوارات مع تيارات مخالفة لها في الأيدولوجية، وكان هذا الأمر أكثر حدوثا لدى الفصائل التي تعتبر من الفصائل ذات الدرجة الأيدولوجية المتوسطة والمنخفضة، ولكن الفصائل ذات الأيدولوجية الأكثر حدة وارتفاعا كان هذا الخيار أكثر صعوبة بالنسبة لها؛ حيث أن بناءها التنظيمي بني على هذه الأيدولوجية. لذلك، فبعض المراجعات السلوكية وإن لم يرافقها مراجعات فكرية كانت تسبب انشقاقات من العناصر الأكثر التزاما أيدولوجيا والتحاقها بفصائل لم تجر مثل هكذا تغيرات، مما كان يهدد وحدة الفصيل نفسه. وعليه، يمكن القول إن عملية التدجين للأيدلوجية وتخفيض حدتها بدأت بالفصائل ذات البعد المنخفض والمتوسط أيدولوجيا، وبقيت الفصائل ذات البعد الأعلى أيدولوجيا بعيدة عن هذه المراجعة. ولكن أيضا عاد الميدان مصحوبا بضرورة التواجد في الأروقة السياسية لدى بعض الفصائل ليفرض نفسه هذه المرة، فبعض الفصائل عانت من مشكلة التصنيف الدولي بسمة الإرهاب، مما يعني فعليا استمرارها قابعة تحت خطر التهديد بالضربات الدولية حتى ولو تم تسوية الصراع في سورية. وبالتالي، زوالها على المدى الطويل، كما أن نتائج المعارك العسكرية أظهرت عدم جدوى الصراع العسكري ضد النظام والروس والإيرانيين مجتمعين دون غطاء من قبل دول داعمة.

 إذن، باتت الحلبة السياسية ضرورية لكل فصيل عسكري يطمح للاستمرار، وبات التغيير يفرض نفسه، وإذا كانت الجبهة العسكرية تستوجب رمزيا البدلة العسكرية، فاروقة السياسية تستوجب بدلة رسمية مع ربطة عنق. كذلك، فدخول هذه الحلبة لا يكفيه التغير الظاهري فقط، بل لا بد من تغيير موضوعي، حتى ولو كان في البداية تغيير جزئي لجهة قبول العمل السياسي وفق ضوابط هذا العمل، ومن شبه المؤكد أن ضوابط العمل السياسي ستفرز حالة تدجين حتمية لأيدلوجية الفصائل ذات المستوى المرتفع، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل عملية المراجعة الأيدلوجية هذه ستكون مراجعة حقيقية قائمة على قراءة واقعية بأن الطرح الأيديولوجي بسقف مرتفع وصل إلى طريق مسدود؟ أما أنها ستكون مراجعة براغماتية تفرضها الوقائع ويمكن أن يكون لها ارتدادات عكسية في حال تغيير هذه الوقائع؟ وعلى الضفة الأخرى، كيف يمكن تبرير ما تم القيام بها من أعمال أدت إلى أضرار بمسار الثورة عموما تحت يافطة الأيدلوجية من قبل هذه الفصائل؟

كل هذه الأسئلة ستبقى دون إجابات حتمية، ولكن يمكن القول بأن دخول الفصائل الأيدلوجية ذات المستوى العالي أروقة السياسة؛ سينتج تدجينا لأيدولوجيتهم. وبالتالي، انعكاسات على سلوكياتهم بشكل واضح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى